كتب زهير قصيباتي: «أميركا لا تُلدَغ من جُحر واحد مرتين»... مَنْ يصدِّق؟ بل لعلها تُلدغ من جُحرين أو ثلاثة، كما تُظهِر الحرب السورية وأزمة أوكرانيا، بعدما لُدِغَت الولايات المتحدة بهزيمة سياسية كبرى في العراق وتستعد لاحتواء الثانية في أفغانستان. ففي بغداد لا ينام الناس على حرير الديموقراطية بل على دويّ السيارات المفخّخة، وفي كابول قلة تستبعد عودة «طالبان»، بقوة إلى القصر الرئاسي.
والعبارة الأولى، التي قالها مساعد وزير الخارجية الأميركي وليام
بيرنز، مقدِّماً عرض حوارٍ الى بيونغيانغ ومشيداً بـ «صدقية
إيران» في المفاوضات (على الملف النووي)، لا تنقذ الوزير جون كيري الذي سها عن ذكرها في جلسة امتحان عسير في مجلس الشيوخ الأميركي. في الجلسة كان السناتور الجمهوري جون ماكين بارعاً في إيجاز وصفٍ لأداء إدارة الرئيس باراك أوباما في السياسة الخارجية بحيث «تتحدث بحزم شديد لكنها تمسك بعصا صغيرة جداً... بل بغصن شجرة صغير»!
وإذا كان بعضهم يستبدل «
القوة النائمة» بـ «القوة
الناعمة» التي أطربت أوباما فنام على حرير الانسحابات من العراق وأفغانستان ومن «الربيع العربي»، فالكارثة ان الرئيس الأميركي ما زال يوجّه رسائل خاطئة إلى «قيصر» الكرملين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مثل فِعْلَتِه حين لم يجد حرجاً في الحديث علناً عن جيش أميركي منهك بعد عقدٍ من الحروب... ومثل إعلان البنتاغون بيان حسن نية، باستعداده طوعاً لخفض قدراته النووية الحربية، تطبيقاً لمعاهدة «ستارت».
لا يجادل أحد في ضرورة خفض التسلح النووي، ولكن أن يبادر البنتاغون الى الحديث عن القرار علناً فيما تواصل موسكو لعبة القط مع مَنْ تعتبرهم فئراناً في كييف، وأن يُقدِم رئيس أميركي للمرة الأولى على تقديم صك اعترافٍ للخصم الروسي بعجز جيش القوة العظمى عن خوض أي حرب نتيجة الإنهاك على مدى عشر سنين... فذاك لن يغري الكرملين إلا بمزيد من التحدّي لكل الصراخ الغربي. وهو صراخ يبدو حتى الآن عاجزاً على الأرجح، عن وقف تفكيك أوكرانيا.
الأكيد أن بوتين عازم على منع تكرار سيناريو الحرب على يوغوسلافيا، والحرب لإطاحة نظام القذافي... على الأقل بدليل إصراره على تمديد عمر النظام السوري. ورغم سلاح العقوبات الذي تستخدمه عواصم الغرب لإيلام الاقتصاد الروسي، والضغط على الأحلام الإمبراطورية لبوتين، لا شيء ملموساً يُقنع أحداً بصدق وعود وزير الخارجية سيرغي لافروف باكتفاء موسكو بضم القرم.
وفيما تلمِّح طهران وواشنطن إلى قرار مشترك بتسريع مفاوضات الملف النووي الإيراني، تكشف روسيا بلا حرج انها لا تتردد في مقايضة: لإدارة أوباما أن تقطف ثمار المفاوضات في مقابل وقف سياسة الضغط على الأصابع في الحديقة الخلفية لـ «امبراطورية» بوتين.
وهل أكثر دلالة من حديث السناتور الجمهوري بوب كوركر عن جلوس الإدارة الأميركية على سطح باص الحرب السورية الذي «تقوده روسيا وإيران»؟! لم يكن أمام ماكين إلاّ أن يوجّه صفعة إلى نهج أوباما- كيري (ولو لحسابات انتخابية للكونغرس هذه السنة). فـ «جنيف 2 السوري انهيار كامل، والمحادثات الفلسطينية- الإسرائيلية انتهت، وستفشل المفاوضات مع إيران».
ما لم يقله السناتور أن واشنطن ضحية للخداع الروسي الذي أوهم الجميع بإمكان إقناع النظام السوري بإعدام نفسه في لحظة تختارها موسكو، الأمر الذي استفزَّ اخيراً الرئيس بشار
الأسد ليجهر برفضه مصير نظيره الأوكراني المخلوع يانوكوفيتش.
الاحتمال الثاني أن واشنطن لم تضلَّل، بل جيَّرَت الوهم إلى المنطقة، ليبقى الشعب السوري تحت رحمة فضاء البراميل المتفجّرة، وساحات الميليشيات و «الشبيحة»، وميادين «داعش» وأوسمتها المفخخة. في الاحتمالين تكسب روسيا بـ «تحييد» الغرب بعد طمأنة إسرائيل إلى استمرار نزع الترسانة الكيماوية السورية.
وعلى خطى «القيصر»، يناور المرشد في إيران علي خامنئي، فيوحي بأنه يكتفي بالتفرج على مسار جنيف النووي، فيما حكومة روحاني تتشبث بالتفاؤل بمفاوضات وحوار مع مَنْ كان «شيطاناً أكبر» لأربع وثلاثين سنة. ويدرك خامنئي حاجة أوباما والديموقراطيين في الكونغرس إلى إنجازٍ في السياسة الخارجية، كأن المفاوضات النووية الآن فرصة أخيرة، خصوصاً بعدما خابت آمال كيري بتجاوب إسرائيلي لتحقيق اختراق على المسار الفلسطيني، بات بعيداً.
والسؤال هل تُلدَغ الإدارة الأميركية مرة عاشرة من الجُحر الإيراني، بعدما سلّمته الهيمنة على العراق، وستتيح له حلفاً مع كابول أُعِدَّت لُبنته الأولى قبل سحب جيش الولايات المتحدة؟ وعلى خطى النهج الروسي في أوكرانيا، هل يمكن استبعاد حشر المرشد الأميركيين في زاوية اللحظة الأخيرة من المفاوضات النووية، لتسييج الحدائق الخلفية الإيرانية... من أفغانستان الى سورية ولبنان، وربما غيرهما في الخليج؟
لدى «القيصر» والمرشد القوة الأميركية «الناعمة» نائمة، إنها اللحظة المثلى لمخاض نظام عالمي جديد، لن ينهض إلا بأشلاء ودماء، ونهوضه كارثة.
(الحياة اللندنية)