«أيهما أخطر علينا في
الخليج، العطش أم الهيمنة
الإيرانية؟». لا أحد يحب هذا النوع من الأسئلة الافتراضية، خصوصاً عندما يكونون نخبة من المسؤولين والسياسيين والباحثين الذين أمضيت معهم يومين في البحرين نبحث في مهددات «الأمن الوطني والأمن الإقليمي لدول الخليج» بدعوة من مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة.
تصدرت إيران بالطبع قائمة المهددات هي وأطماعها التوسعية ورغبتها في الهيمنة والتدخل، تلاها، وهذا مهدد جديد، «الانقسام غير المسبوق» بين دول الخليج، وفق توصيف الأمير تركي الفيصل في كلمته الافتتاحية، هذا الانقسام الذي يكاد أن يضيع أعظم مكتسباتنا وهو مجلس التعاون الذي على رغم تقصيره وفّر بنية تحتية عبر اتفاقات، ليس سياسية فقط بل حتى عسكرية، في سعيه الى «الأمن الجماعي» الذي يحتاج كي يقترب من الكمال خطة محكمة متوافقة من مستحدثات الحروب الدفاعية، لتشكيل منظومة ردع فعّالة خلال أقل من 24 ساعة في حال تعرض واحدة أو أكثر من دول المجلس للخطر، وقد فصلها في المؤتمر أمير آخر هو نايف بن أحمد بن عبدالعزيز الباحث في الاستراتيجيات والأمن.
المهدد الثالث هو «الانكفاء الأميركي» أو عدم الثقة بالأميركيين الذين يفترض أن يكونوا حلفاء كل دول الخليج بعدما وقّع الجميع معهم عشرات الاتفاقات الأمنية والدفاعية، ولكن على رغم ذلك ثمة شعور واسع بين المجتمعين أنهم أحد المهددات، وإن انفرد باحث عماني بتفنيد ذلك مستعرضاً المرات التي التزمت فيها الولايات المتحدة بالدفاع عن دول الخليج.
ربما كان التداخل في مفهوم الأمن بين الدولة والنظام سبباً لتوسيع مفهوم «المهددات» التي طاولت حتى الإصلاح وتطلعات الشعوب إلى الحريات والمشاركة السياسية، فجعلها رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الإمارات الدكتور محمد بن هويدن ضمن القائمة «لأنها تهدد طبيعة نظامنا الخليجي المحافظ»، وهو طرح استفز حتى مواطنه أستاذ العلوم السياسية الباحث الجاد الدكتور عبدالخالق عبدالله، الذي عقّب عليه بأن الإصلاح لا يمكن أن يكون مهدداً، بل هو المانع الحقيقي لمهددات أمن دول الخليج.
وسط كل هذه المهددات السياسية والأمنية، حاول وزير المياه والكهرباء السعودي الدكتور عبدالله الحصين في كلمته أن يلفت انتباه الباحثين إلى أن «الأمن المائي لدول الخليج العربية يعدُّ من أكبر الأخطار والتحديات بالنسبة إلى دول المجلس، كونه يشكل تحدياً داخلياً»، مستعرضاً بعد ذلك وبالأرقام حالة هدر هائلة لأشح وأثمن الموارد في بلادنا الصحراوية، جعلت المواطن الخليجي يسجل أرقاماً قياسية كأكبر مستهلك للماء أكثر من الألماني أو الكندي اللذين يسبحان فوق بحيرات وفيرة من المياه الحلوة».
باحث آخر هو الدكتور عبدالعزيز الطرباق وصف تعاملنا مع الماء بأنه «انتحار بطيء»، الجيد أنه مدير «الاستراتيجية الموحّدة للمياه في دول مجلس التعاون، ما يعني أن دول الخليج اهتمت رسمياً ومؤسساتياً بمنع هذا «الانتحار البطيء». ولكن كان من الواضح أن لا وزير المياه في أكبر دولة خليجية ولا مدير الاستراتيجية الموحدة يملكان من الأسنان ما يستطيعان به فرض تشريعات تحدُّ مما وصف بأنه هدر «يهدد بحدوث فقر مائي في بلدان المجلس» وفق وصف الوزير. ما يعني أن يأتي يوم نموت فيه عطشاً أو نرحل، مثل ما فعلت قبائل العرب غير مرة كلما أصاب الجزيرة العربية جدب أو قحط، شمالاً إلى الشام والعراق مثلما فعلت قبائل شمر وعنزة، أو إلى شمال أفريقيا حيث استقر بنو سليم وبنو هلال، والرشايدة إلى السودان، أما صعيد مصر فجمع فخوذاً من معظم قبائل الجزيرة التي ارتحلت إليه.
ولكننا في القرن الـ21، ولم يعد مقبولاً ولا مسموحاً أن نجمع رحالنا ونهاجر عبر الحدود، كما أنه ليس من المنطقي أن نترك النفط الثمين خلفنا والذي يبدو أن عمره أطول من عمر مياهنا الجوفية التي تشكّل مخزونها خلال آلاف الأعوام فاستنفدناها بحماقة خلال عقدين أو ثلاثة بعد طفرة النفط التي أصابتنا بخيرها وشرها في منتصف السبعينات من القرن الماضي (كان ذلك قبل 35 عاماً فقط)، ولا نزال نفعل بزراعة العلف والشعير اللذين حلا محل القمح الذي احتجنا عقدين لكي نعترف بأن زراعته في الصحراء خطأ استراتيجي وليست أمناً استراتيجياً، ونحتاج الآن أن نعترف بخطر التوسع في زراعة الشعير ومثله مزارع الألبان الهائلة.
المفارقة أن جل جهود الترشيد تتوجه نحو الاستهلاك المنزلي الذي يرى الوزير الحصين أنه لن تنعدل حاله إلا أن يدفع المواطن الكلفة الحقيقية للمياه، ومعه حق في ذلك، ولكنه أيضاً أشار في كلمته إلى أن الزراعة هي من يستهلك 80 في المئة من الماء، وأي ماء؟ إنها المياه الجوفية أو ما تبقى منها، التي كانت أحق بالتحلية، فكلفة تحليتها أقلّ بكثير من تحلية مياه البحر، وكأن الوزير في كلمته يرد على كل من يشكك في معلوماته فيقول إن المياه الجوفية مالحة ولا تصلح للشرب.
بعد كلمته التي دقّ بها نواقيس الخطر، عدنا إلى مناقشة الخطر الإيراني، والإسلام السياسي، والانكفاء الأميركي، وتوجه الوزير إلى شرق المملكة ليفتتح محطة لتحلية المياه في رأس الخير هي الأكبر عالمياً في الإنتاج وأكثرها كلفة، لتنضم إلى 17 محطة على ضفتي الخليج والبحر الأحمر، مع بضع عشرة محطة أخرى لبقية دول الخليج وصفت مرة بأنها «بط على بحيرة»، تعبيراً عن انكشافها الأمني في حال حصول حرب مدمرة في المنطقة.
لعل البعد الأمني في أهمية المحافظة على الماء في الصحراء يتجلى أكثر لو أعدت صياغة السؤال الذي افتتحت به المقالة «ماذا لو استهدفت إيران الراغبة في الهيمنة على المنطقة (أو غيرها) محطات تحلية المياه لو حصلت لا قدر الله مواجهة عسكرية معها، في الوقت الذي نهدر فيه مياهنا الجوفية التي يفترض أن تكون مخزوننا الاستراتيجي؟».
(الحياة 26/4/2014)