السلطة المرجعية لجبهة النصرة

يبدو أن الخلافات بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية قد حيرت الباحثين والمراقبين والإعلاميين، فضلا عن أنصار التيار السلفي الجهادي، إلا أن اتساع شقة الخلاف كان متوقعا بسبب التباس المرجعية الفكرية والإستراتيجية العملية للطرفين، ففي الوقت الذي كانت مرجعيات الفرع العراقي منذ تأسيسه على يد الزرقاوي تستند فقهيا إلى أبو عبد الله المهاجر، وعمليا إلى أطروحات أبو بكر الناجي، كان الجولاني يستند نظريا وعمليا إلى أطروحات أبو مصعب السوري، ويستند المسؤول الشرعي للنصرة أبو مارية القحطاني ــ عزل لاحقا ــ إلى عطية الله الليبي، فقد شكلت آلية العمل أحد خطوط الصدع والاختلاف، كما مثلت موضوعة مركزية التنظيم التي كان يدافع عنها "أبو بكر الناجي" في كتابه "إدارة التوحش"، ولا مركزيته التي تبناها "أبو مصعب السوري" في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية"، أحد الإشكاليات بين الطرفين.

فقد حمل التشابه، وأحيانا التطابق بين أفكار أبو محمد الجولاني وأطروحات أبو مصعب السوري بعض الكتاب والباحثين إلى القول بأنهم شخص واحد.، إلا أن الحقيقة تشير إلى أن الجولاني تبنى مرجعة أبو مصعب السوري، الذي بات يشكل السلطة المرجعية الأساسية لأفكاره، لأسباب عديدة ومن أهمها قناعة الجولاني بصواب نهج السوري وصلاحيته للتطبيق في سوريا، والنزعة البراغماتية وسياسات التكيّف مع الشأن المحلي الوطني للجولاني، فضلا عن انتمائهما للهوية السورية المشتركة، فقد كانت إستراتيجية جبهة النصرة تتجه نحو "سورنة" التنظيم أولا، و"شومنته" ثانيا، أما البعد الأممي العالمي فقد كان يضمر ويضعف.

ويعتبر أبو مصعب السوري أحد منظري السلفية الجهادية (وهو غير معتبر لدى الفرع العراقي ومعظم تيارات الجهادية العالمية)، وقد طور رؤيته الخاصة بالاستناد إلى تراث السلفية الحركية الإخوانية، ممثلة بسيد قطب وعبد الله عزام، مرورا بمروان حديد، والاتكاء مفهوم "حرب المستضعفين"، الذي أرسى قواعده التراث الماركسي الثوري المتعلق بحرب العصابات والأنصار، وتنظيرات ماو تسي تونغ، وتشي غيفارا، وتعد كتابات السوري السلطة المرجعية الأساسية للجولاني وجبهة النصرة، وخصوصا، كتبه: "ملاحظات حول التجربة الجهادية في سورية"، و"أهل الشام في مواجهة النصيرية والصليبية واليهود"، وكتابه الأهم "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية"، الذي يؤسس لبناء "سرايا المقاومة الإسلامية"، ومفهوم الجهاد الفردي (الذئاب المنفردة)، وتحويل الجهاد إلى مشروع أمة، من خلال إنشاء خلايا يجمع بينها الفكر والعقيدة والهدف دون أن تكون في تنظيم يعتمد على هيكلية التنظيمات التقليدية، وتنشئ فكرة السرايا نظاما للعمل أكثر من كونها تنظيما، لتشكل شبكة تُجمع من خلالها نتائج العمل الجهادي بأكمله، وتكون هذه السرايا مرنة بحيث تتعاون مع الآخرين دون فرض البيعة أو الولاء، واستقطاب الفاعلين المحليين، ويكون هدفها "دفع الصائل" عبر آليات المقاومة العسكرية  دون التسرع في مشروع إقامة الدولة الإسلامية أو إعلان الخلافة.

تقوم نظرية المقاومة لدى أبو مصعب السوري. على جملة من الآليات للوصول إلى: "الهدف الاستراتيجي للمقاومة وهو صد الحملات، وجمع الأمة على ذلك، تحت شعار الجهاد ومنهج الإسلام"، فالمادة (1)  تنص على أن: "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية ليست حزباً, ولا تنظيماً, ولا جماعة محدودة محددة. فهي دعوة مفتوحة. هدفها هو دفع صائل القوى الاستعمارية الصليبية الصهيونية الهاجمة على الإسلام والمسلمين. ويمكن لأي تنظيم أو جماعة أو فرد اقتنع بمنهجها وأهدافها وطريقتها, الدخول فيها. بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. فهي معركة الأمة المسلمة وليست صراع النخبة المجاهدة فقط. 

في هذا السياق يدعو السوري إلى "عدم الانشغال في التصدي بالقتال لمظاهر الفساد والفسوق والعصيان والبدع، وينبه إلى ثلاث مسائل: 1ـ حرمة دم المسلم ولو كان فاسقاً عاصياً مهما تلبس به من ذلك ما لم يكفر. 2ـ تنفيذ الحدود والأحكام الشرعية على مرتكبيها من أفراد المسلمين هو للإمام الشرعي الممكن، و هو ليس موجود الآن، وإنما هدف المقاومة بعد دفع الصائل هو إقامته. 3ـ أن الهدف الآن و والفريضة الشرعية الأولى, هو دفع الصائل الكافر عن ديار المسلمين. 

وتنص المادة 20 على أن: كل مسلم يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله ) على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، ضمن دائرة الإسلام العامة التي دعاها الفقهاء (أهل القبلة). وتعتبر الخلافات العقدية والمذهبية والطائفية مردها لأهل العلم للفصل فيها. وأن مجالات ذلك هي الحوار بالحق، والبيان بالحكمة والموعظة الحسنة. وتنهى عن الفتن والاقتتال بين المسلمين. وتدعوا كل المسلمين من أهل القبلة؛ مذاهب وجماعات وأفراد. إلى التعاون على دفع الصائل وجهاد العدو الكافر الذي يدهم بلاد المسلمين. وتدعوا الجميع إلى نبذ دواعي الاحتراب الداخلي.  

يتماهى الجولاني مع السوري بصورة لافتة، بل يستخدم ألفاظه وتراكيبه أحيانا كثيرة،  فهو يقول: "وعلى كل فرد من أفراد الجبهة إلا يَقْصُرَ ولاءه على أفراد الجماعة فحسب، فنحن لسنا حزباً سياسياً، بل جبهة تعني بشؤون المسلمين عامه، وبردِّ حقوق المظلومين من الناس، ولذا فالحفاظ علي طيب العلاقة مع الجماعات الأخرى، وحسن معاملتهم وغض الطرف عن أخطائهم هو الأساس، ما لم يبدِّلوا"، ويشد على مبادئ حرب المستضعفين والأنصار، إذ يقول : "يوماً بعد يوم، انتم تقتربون خطوات أكثر من الناس، وقد دخلتم قلوبهم وأصبحتم محل ثقتهم، وما ذاك إلا لما رأوا من صدق دعوتكم وعظيم تضحيتكم وطيب معشركم وأمانتكم وحسن خلقكم، فإن هذا يستوجب منكم مزيداً من الإحسان والعطف عليهم، فبقدر ما تملكون من شده على أعداء الله لابد أن يقابِل هذه الشدة ما يوازيها من العطف والحنان على عباد الله المسلمين... وحذارِ حذارِ أن تشددوا عليهم.. ولتكن دعوتكم إياهم بأوليات الدعوة وأسسها، دون التصلب بالفروع".

ويؤكد الجولاني على مبادئ دعوة المقاومة التي أرساها أبو مصعب السوري، إذ يقول: "وإنّا لندعو جميع الفصائل المقاتلة على الأرض الساعية لإحلال عدالة الإسلام ونصرة الشريعة في الشام، بأن نتعاهد ونتواصى جميعاً على الحفاظ على مسار الجهاد في الشام من أن ينحرف لغير جادّة الإسلام، وأنْ نحشِد جميع جهودنا المتضافرة للوصول للهدف الأسمى لإقامة حكم إسلامي راشدٍ على الأرض المباركة. وأنْ نُخلّص أرضنا من أيّ هيمنة غربيّة أو شرقيّة ظالمة، وأنْ نعدل بين الناس وننتصر للمظلوم من الظالم، ونردّ الحقوق لأهلها ونسعى لإحلال الأمن بين أبناء أمّتنا. وأنْ لا يسعى كُلٌ منا لأنْ يستأثر بالحكم بحجة أنه قد قدّم و ضحّى، فإنّ الشام كلّ الشام قد ذاقت من ويلات الحرب ما ذاقت، وأن نأخذ بعين الاعتبار أن الساحة الشامية مليئةٌ بالكوادر والطاقات المدفونة قصراً (التربوية والصناعية والتقنية)، وأنّها جميعاً يجب أن يُشكّل منها فريق متكامل للنهوض بالأمة للرفعة والسمو"..

لا جدال بأن السلطة العلمية المرجعية لجبهة النصرة تستند أساسا إلى السلفية الحركية التي نشأت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، فهي تتبع المدرسة الجهادية التي وضع أصولها النظرية سيد قطب، وأخذ بها أيمن الظواهري زعيم جماعة الجهاد المصرية والقاعدة لاحقا، وتبناها مروان حديد مؤسس جماعة "الطليعة المقاتلة" في سوريا، وبلور أطروحاتها عبد الله عزام الأب الروحي للأفغان العرب في أفغانستان، وطور مستنداتها أبو مصعب السوري في الشتات، فالمسؤول الشرعي الحالي لجبهة النصرة الدكتور سامي العريدي، يؤكد على ذلك بوضوح في بيان منهج الجماعة، فهو يقول في لقاء بعنوان "منهجنا وعقيدتنا": ننصح بقراءة كتاب:"معالم في الطريق" لسيد قطب رحمه الله. وكتاب "لا إله إلا الله عقيدةٌ وشريعةٌ ومنهاجُ حياة" للشيخ محمد قطب.. ومن مراجعنا المعاصرة "الشيخ حمود بن عُقلاء الشعيبي" و"الشيخ عبد الله عزام" تقبلهم الله عز وجل".