أغلق أمس باب الترشح للانتخابات الرئاسية بتقدم عشرات الشخصيات من مختلف المشارب الأيديولوجية والسياسية بعد أن اكتملت قبل أيام عملية تقديم القوائم وفرز القوائم المترشحة للبرلمان.. وبذلك تكون بلادنا قد قطعت خطوة معتبرة في اتجاه إنجاح هاذين الاستحقاقين الحاسمين في مسيرة الانتقال الديموقراطي التي أطلقتها
ثورة الحرية والكرامة قبل أربع سنوات.
ولتقدير أهمية هذه الخطوة لا بد من العودة سنة إلى الوراء عندما كانت
تونس تعيش على وقع تداعيات عملية الاغتيال الثانية التي اوشكت على الاطاحة بالوضع جملة، خاصة وقد جاءت في أجواء الزلزال المصري الذي أطاح بنتائج العملية الانتخابية ونجح في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما أغرى عديد الأطراف الداخلية والخارجية المغتاظة من الربيع العربي بإغلاق قوسه جملة بما في ذلك في مهده تونس.
عاشت بلادنا صيفا وبداية خريف ساخنة جدا على وقع المظاهرات والاعتصامات المنادية برحيل الحكومة وحل المجلس ودعوة المؤسسة العسكرية إلى النسج على منوال شقيقتها المصرية.
كان كل شيء ينبئ بتوجه الأوضاع إلى الانهيار الكامل أو التحارب الأهلي حتى بدأت آليات الاجتماع السياسي التي راكمتها بلادنا خلال أكثر من نصف قرن من عمر الدولة الحديثة في الاشتغال وهي آليات ساهم واشترك في تطويرها الأشخاص المذكورين في عنوان المقال كل بمقدار.
فالزعيم فرحات حشاد يعود له الفضل في تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لم يكتف منذئذ بلعب دور المنظمة الفئوية المقتصر نشاطها على الدفاع عن منظوريها من الشغالين بل اتسعت اهتمامتها على امتداد مراحل تاريخنا الوطن لتشمل الوطن فساهمت مساهمة مقدرة في معركة التحرير وثورته الكبرى التي كان من نتائجها استشهاد الرمز المؤسس وواصل الاتحاد في فترة الاستقلال لعب دور المظلة الحامية للمجتمع المدني والمنتظم السياسي خاصة عند اشتداد غائلة الديكتاتورية، ولم يتخلف الاتحاد عن قيادة الحراك الثوري فأعطى بإضرابات 12 و 13 و 14 جانفي 2011 ذلك الزخم الضروري ليتحول الحدث التونسي الى ثورة شاملة.
عندما أوشكت سفينة 23 أوكتوبر على الغرق بما يعنيه ذلك من إغلاق قوس الربيع العربي تقدم الاتحاد ممثلا في أمينه العام السيد حسين العباسي مرة أخرى ليلعب من خلال عملية الحوار الوطني بالاشتراك مع المنظمات المدنية التاريخية اتحاد الصناعة والتجارة ورابطة حقوق الإنسان وعمادة المحامين دور الوسيط بين الأطراف السياسية والأيديولوجية اللازمة وليوفر الاخراج المناسب لعملية انسحاب حكومة الترويكا من موقع أصبح البقاء فيه مستحيلا وحاملا لكل الاخطار على وحدة الوطن، وليبقي جذوة الديموقراطية والحرية متقدة في مهدها مع ما عناه ذلك من تسهيل ولادة دستور حاز اجماع التونسيين وانتخاب الهيئات المستقلة التي ستمثل العمود الفقري للديموقراطية التونسية وخاصة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وصولا إلى ما نعيشه من تقدم نحو انتخابات حرة نزيهة.
الزعيم
بورقيبة أرسى دعائم دولة رغم كل الانتقادات التي توجه لها إلا أنها اتسمت بصفتين كان لهما دورا مقدرا في إنقاذ الوضع والمرور بالبلاد من منطقة الاضطرابات الشديدة؛ الخاصية الاولى هي ذلك الحس الشديد بموضوعة الشرعية في العمل السياسي، والتي لم يستطع أي حاكم بعده أن يتجاوزها بما فيهم هو نفسه وذلك ما يفسر لجوءه إلى تغيير الدستور في بداية السبعينات ليتولى الرئاسة مدى الحياة بديلا عن التزوير الدوري للانتخابات الرئاسية بعد أن اكتشف تغير المزاج الشعبي تجاهه واهتراء شرعيته النضالية، وعجزه عن مقاومة تشبثه بالحكم بعد أن تقدمت به السن وفعلت الأمراض فيه فعلها.
انقلاب نوفمبر لم يستطع مقاومة ذلك الحس الراسخ بالشرعية فلجأ إلى إخراج العملية إخراجا دستوريا وكذلك فعلت النخب السياسية غداة فرار المخلوع ففعلت الفصل 56 ثم بعد يوم واحد الفصل 57 ما أطلق جدلا دستوريا غريبا في دولة تعيش ثورة بهذا العمق، وقد مثل انسحاب الشق الدستوري المنتسب إلى البورقيبية في المعارضة من اعتصام الرحيل ورفضه المشاركة في عملية محاصرة الولايات والمعتمديات التي دعت اليها بعض الاطراف المتشنجة في مثل هذه الفترة من السنة الماضية نقطة فارقة في هذا السياق.
الميزة الثانية التي ارساها بورقيبة هي حرصه على ابعاد المؤسسة العسكرية عن التجاذبات السياسية ما جعل كل الدعوات والتوسلات التي أطلقها المتضررون من الثورة ومن عملية الانتقال الديموقراطي للمؤسسة بالانقضاض على الحكم وإلغاء التجربة تسقط في آذان صماء صائمة عن التدخل في الصراعات، لا تعلي إلا مصلحة الوطن وقيم الجمهورية، وكذلك نسجت على منوالها المؤسسة الأمنية التي اكتوت خلال سنوات طويلة بتوظيفها من طرف الديكتاتورية، فنات المؤسستان بنفيهما عن التقاط سلطة كان مرمية في الشارع في اكثر من مناسبة وخاصة يومي 6 فيفري 2013 و 25 جويلية 2013.
الضلع الثالث لهذا الهرم كان مساهمة زعيم ومؤسس الحركة الاسلامية الشيخ راشد
الغنوشي الذي استنجد بكل ما راكمه من رصيد التجربة التاريخية والدروس المستفادة من نكبات الاسلاميين في مختلف الاصقاع ومنها تلك التي عاشتها حركته على مدى عشرين عاما وما حصله خلال مسيرته السياسية والعلمية الطويلة من معرفة باليات الصراع السياسي وحس مرهف بموازين القوة ورؤية ثاقبة قادرة على الاستشراف الصحيح للأحداث ومما اكتسبه من سلطة معنوية على ابناء حركته ونخبها ليدفعهم كارهين الى اخذ تلك الخطوة الى الوراء في سابقة تاريخية يتخلى فيها الحزب الاكبر على مواقعه في الحكم في كسر للتقاليد العربية التي لا ترى خروجا مشرفا من الحكم إلا في صناديق الموتى بعد فصول مريرة من التحارب الاهلي الذي يمزق النخب والاوطان والدول، وهو ما يحدث في محيطنا الاقليمي للاسف، لعب الغنوشي - مسلحا بقرار تاريخي شخصي نادر الحصول وهو امتناعه بعد عقود من النضال السياسي الشاق والقاسي عن تولي اي منصب سلطوي-، دور الحارس الأمين للحرية وهو من كبار منظريها في المعسكر الاسلامي وللوحدة الوطنية ما دفعه الى التنازل والمبادرة بمقابلة خصمه الالد والصمود أمام دعوات الاقصاء والعزل السياسي لخصومه التاريخيين وأخيرا الانسحاب من مواقع السلطة.
تلك مساهمة ثلاثة من الزعماء الذين انتجهم الاجتماع السياسي التونسي التي مكنت بلادنا من ان تكون الاستثناء المضيء الى حد الان في محيط مليء بالخيبات، فهل تنجح هذه الاليات في المحافظة على هذه الشمعة متقدة؟
اشتغلت هذه الاليات منفصلة فأنقذت البلاد من الفوضى والتحارب الاهلي فماذا يمكن ان تنتج لو اشتغلت موحدة او حتى متناسقة وهل تستطيع ذلك؟؟
المؤشرات في هذه الأيام تدعو الى التفاؤل.