تحدثنا في المقالة السابقة عن هؤلاء الذين يقومون بدور ترزية القوانين في النظم الاستبدادية، والتي أضيف إليها منظومة انقلابية تريد أن تضفي شرعية على اغتصابها وعلى كامل سياساتها وممارساتها، وتأكد لنا أن ترزية القوانين لم يكن عملهم فقط، ضمن هذا القانون الأخير الساعي لتحويل
مصر كلها إلى "منشأة عسكرية" في ظل استراتيجية لعسكرة الدولة والمجتمع والمؤسسات والجامعات وكافة المنشآت. وفي هذا السياق قام هؤلاء الترزية بتفصيل وإعمال كل ترسانة القوانين التي تسهم في تكميم الأفواه وصناعة التخويف، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى أن يتحول المجتمع إلى سجن كبير يتحكم فيه مسار أمني يجعل من حياة الناس رهنا لإشارة الأمن وحركته وهواجسه ومساراته.
ترزية القوانين ضمن تلك المنظومة الانقلابية صاروا في وضع نموذجي وموات لطبخ مزيد من القوانين وتفصيلها على مقاس الاستبداد كاستراتيجية للانقلاب، ومن العجيب حقا أن يأتى مع الانقلاب وزير للعدالة الانتقالية، وما هو كذلك، وإنما هو في حقيقة أمره وزير للاستبداد المقيم. ونتساءل بدورنا أين تلك العدالة الانتقالية المزعومة؟ أم هي طبعة انقلابية تجعل من تلك الوزارة تدشن وترقب شبكة القوانين الاستبدادية فتكون بحق وزارة للظلم المستدام وليست للعدل فى مراحل الانتقال، تكرس لاستبداد دائم وليس لوضع انتقالي. ورغم أن هذا المفهوم قد برز في حقل التجارب التي تتعلق بالتحولات الديمقراطية في بلدان شهدت تجاوزات إنسانية أو سياسات عنصرية أو حروب أهلية فإنه للأسف الشديد تستخدم تلك الوزارة كغطاء زائف تحرك به ما من شأنه أن يمرر لقوانين الظلم المريع وتكريس الاستبداد والترويع.
وفي إطار عسكرة الوطن تصل الأمور من السيولة والاستسهال إلى إمكانية أن تحول كائنا من كان إلى محاكمة عسكرية، فالأمر ببساطة شديدة هو أن تضع ما هو عسكري في طريقه حتى يكون مبررا لعسكرة المحاكمة!
قامت لجنة ترزية القوانين الاستبدادية بالاستناد إلى مجموعة من القواعد والأسس التي تراها ضمن مثلث التكميم والتخويف والترويع في محاولتها لصناعة عقلية القطيع، قواعد مغلفة بتهم جاهزة ومعلبة من العنف والإرهاب والإضرار بالأمن القومي. ومنها:
* المذكور ضبط متلبسا بالتنفس بحرية.
* المواطن ضبط متلبسا بإبداء الرأي.
* ضبط بعض الناس، وبشكل فردي وجماعي، يتعاطون التفكير.
* ضبط مواطن محبا لوطنه، مخلصا لشعبه.
* المذكور ضبط بعدم تعاطيه النفاق، ويحرص على الخروج عن "القطيع"، ويتعاطى حبوب الجرأة والشجاعة وعدم الجبن، نخوفه فلا يخاف، ونخضعه فلا يخضع، ونمنعه فلا يرجع، ونقرع سمعه بكل ما ينذره فلا يرتدع.
* تهمته: عنده ضمير وشرف ويحمل موقفا مستقلا.
* تجرأ بعضهم وقالوا "لا".
يقوم هؤلاء الترزية ويعملون بكل جد حتى يعم الصمت الرهيب والخوف المريع، ومن ثم يخرجون من ترسانتهم ما يكمم الأفواه وما يمسح الأدمغة وما يخرس الاحتجاج، ومن ثم يخرجون قوانين القمع لكل من يعافر أو يقاوم.
قوانين التظاهر وتنظيم الجامعات والحبس الاحتياطى وتنظيم الطعون أبرزها، وتوقع المزيد خلال الفترة القادمة. يسابق النظام الزمن فى محاولة لإصدار أكبر قدر من التشريعات والقوانين التى تجيز وتمنح السلطة، وعلى رأسها رئيس الجمهورية، مزيدا من الصلاحيات وتساعدها فى تقنين الفساد، وذلك فى غياب تام للبرلمان الذى يبدو أن تأخر إجراء انتخاباته حتى الآن أمر متعمد.
تتزايد القوانين والتشريعات التي تصدر يوما بعد يوم مقيدة المجتمع المدني والثوار والشعب ومانحة للسلطة مزيدًا من صلاحيات البطش والتنكيل، والتي كان على رأسها قانون التظاهر وقانون تنظيم الجامعات الذي أعاد تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات بيد رئيس الجمهورية، فضلا عن قانون منع الطعون على العقود التى تبرمها الدولة، وغيرها من القوانين.
وكذا تعديلات
السيسي فى القوانين المنظمة لجامعة الأزهر، والتي بموجبها أصبح أساتذة الجامعة مهددين بالحبس والفصل عن العمل في حالة تعبيرهم عن رأيهم أو مشاركتهم في أي موقف سياسي حتى وإن كان متعلقا بما تمر به الجامعة وما يتعرض له طلابها. ومن بين القوانين الأخرى التى يستعد النظام لإصدارها فى أسرع وقت، القانون الخاص بمنظمات المجتمع المدني والذي أجمع كل العاملين بها على أنه ليس فقط يقيد عمل المنظمات الحقوقية وإنما يصيبها فى مقتل، حيث أكد عدد كبير من المنظمات أنه في حالة إصدار مثل ذلك القانون فإن النظام بذلك يكتب النهاية لحياة المجتمع المدني فى مصر، فضلا عن قانون الحبس الاحتياطى الذى أصدره منصور قبل رحيله والذى أصبح يجيز حبس المتهم احتياطيا لسنوات طويلة، وهو ما تم استخدامه بالفعل للبطش والتنكيل والانتقام من الثوار والمحتجين.
إن أخطر ما قام به المنقلب الرئيس حتى الآن هو استمرار استحواذه على السلطة التشريعية فى يده، وذلك عبر تعطيل إجراء الانتخابات البرلمانية حتى الآن، ليجمع بين السلطة التشريعية والتنفيذية. إن ذلك الوضع منح السيسي ومن قبله عدلي منصور أكبر فرصة لتمرير القوانين التى يريدونها فى غياب برلمان يناقشها، وغاية الأمر أن الانتخابات لن تقام إلا بعد إصدار قوانين مفصلة للسلطة وتتحكم بمفاصل السلطة وتحكم قبضة تغولها على ساحات المجتمع حتى تقصى كل مساحات الفعل المؤثر والفاعلية المحققة لأهدافها.
ترزية القوانين لا يقيمون للدستور وزنا. إنهم يفصلون وفق "كتالوج المستبد" الذي يجُبّ كل دستور، ويجعل كل ما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان حبرا على ورق. إن كلمة المستبد وهواه هو الدستور الحقيقي غير المكتوب، يستلهمه ترزية القوانين هؤلاء فيجعلون من رغباته قانونا ومن متطلبات استبداده دستورا، ويجعلون القانون والتقنين والتشريع ليست إلا أدوات في خدمة المستبد وتكريس سلطانه.
الثورة في عرف هؤلاء الترزية – كما يطلب المستبد - علاقات آثمة وأفعال محرمة ومسالك مجرمة. ترسانة القوانين ليست إلا بوابات تفتيش على الضمائر، تحرك كل الأمور نحو كل أسباب مفتعلة للحفاظ على الأمن والتأمين.
أين نحن من ترزية القوانين الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ووطدوا لأوتاد الاستبداد؟! يقولون، وحال قوانينهم ولسان مقالهم تنافق المستبد في كل آن: أطبق شفتيك لا تفتحهما، ولا تطلق لسانك ولا تتحدث، نحن نوزع الصمت والسكوت، الخضوع والخنوع .. نحن نصنع القطيع وظلم الجميع حينما يراد له أن يسير وفق أهواء ورغبات المستبد.
يقوم الترزية بصناعة القابليات من خلال قوانين ظالمة زائفة فاجرة تخرب النفوس، وتقطع العلاقات، وتهزم الإرادات، وتشكل كل ما من شأنه أن يكون الناس في نفاق المستبد والمحتجون والفاهمون والواعون والمعارضون يمتنعون، هكذا يُصنع القانون، "من يملك القانون يملك حق عزفه"، هذا قانون المستبدين في كل زمن وحين، ألا سحقا لكم أيا من كنتم، بقوانينكم تحولون المواطنين إلى مسوخ، ومساحات المجتمع إلى سجون.