يعوّل مثقفون عراقيون على
شارع المتنبي للنهوض بالواقع العراقي من النواحي الثقافية والاجتماعية والفكرية إلى مستوى أفضل، يعيد لبغداد ومدن العراق الأخرى استقرارها ونهضتها الحضارية، التي تتسم بها عبر قرون من الزمن.
وخلال جولة لـ"عربي21" في شارع المتنبي وسط العاصمة
بغداد يوم الجمعة، قال مثقفون وكتاب إن "جمعة المتنبي" تعدُّ من الأيام العزيزة عليهم، حيث يلتقي "العراق الحقيقي" هنا بجميع مكوناته وأطيافه، يتسامرون بين عطور
الكتب والمؤلفات القديمة والجديدة، يتحدثون عن حب بعضهم لبعض، ويبحرون عبر مرسى
الثقافة، وهي تنتقل بهم من أربيل العراق حتى بصرته الفيحاء، ومن الأنبار حتى واسط وديالى.
يقول القاص مصعب علي لـ"عربي21" إن المثقفين يرون المتنبي هو متنفسهم الحيوي، الذي من خلاله يشعرون بوجود نبض الثقافة. ومثلما عنوان أي كتاب هو ثريا المتن فيه، هكذا هو شارع المتنبي ثريا العاصمة العراقية بغداد.
وأضاف: ما من مثقف زار العراق إلا وكان ضيفاً على المتنبي، الذي لم يعد يسمى شارعاً، بل ملتقى واسع الفضاء، يصطاد المعلومة والفكرة من كل مكان ليوفرها لرواده ومحبيه.
ويرجع تأسيس شارع المتنبي الذي اقترن اسمه باسم الشاعر أبي الطيب المتنبي إلى عام 1932. وقال نعيم الشطري، أحد وجوه المتنبي المعروفة: "في عام 1932 ارتأت أمانة العاصمة تغيير الأسماء القديمة إلى أسماء حضارية وتراثية جديدة، ووقع الاختيار على اسم شارع المتنبي تيمناًً باسم الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي".
وحسب روايات المؤرخين، فإن مكتبة عبد القادر ثنيان أول مكتبة أنشئت في شارع المتنبي، عندما قام بنقل مكتبته من سوق الصفافير إلى شارع المتنبي. كما كان قاسم الرجب ثاني من افتتح مكتبة له قادماً من سوق السراي.
ويقول أستاذ العلوم السياسية الدكتور خالد المعيني: "حتى السياسي عندما يأتي إلى المتنبي، فإنه يتحول إلى تلميذ مستمع لدى كبار المثقفين من الأدباء والكتاب والشعراء والإعلاميين، بل ينال شيئاً من حقيقة العراق، وربما يتعالج فكرياً في المتنبي".
وتمنى المعيني من "السياسيين كافة وكل من أساء للوضع الأمني، أن يراجع المتنبي ليتعرف على مستوى حجمه أمام تاريخ الثقافة العالمية التي يتميز بها العراق".
ويشهد شارع المتنبي الذي يضم اليوم عدة شوارع وأزقّة ومتاحف تراثية تنتصب أمامها القشلة، شامخة عند شاطئ نهر دجلة، وهي تحمل ساعتها الشهيرة بارتفاع عال، واحدةً من رموز بغداد التاريخي، تظاهرة وتجمعاً واسعاً للمثقفين وعشاق الثقافة وتلامذتها، يمتلئ بهم جسر الشهداء وشارع الرشيد، وهم يتوجهون بأفواج منذ ساعات الصباح الأولى من يوم الجمعة لحضور فعاليات متنوعة لجميع الأعمار.
وربما يكون المتنبي أبرز مدرسة لجيل الشباب، وهم يحاولون مزاوجة تطلعاتهم مع واقعية جيل الرواد، لمواصلة العطاء الفكري والثقافي رافداً للثقافة العراقية.
ويعطي الكاتب كاظم حسوني وصفاً دقيقاً للمتنبي بقوله: "إن ثمة فعاليات متنوعة أخذت تنطلق وسط حدائق ساعة القشلة، هذا العرس الثقافي يكشف من دون شك الصورة الحقيقية للواقع الثقافي العراقي، ويعبّر أيضاً عن أوضاع المثقفين واحتياجاتهم، لطبيعة الكتب المهمة والمطلوبة وما تشهده الحركة الثقافية من تطور ومستجدات؛ لذا لم يكن شارع المتنبي مجرد سوق تجاري للكتب، إنما يشكل محوراً اساسياً في حضوره وفاعليته الثقافية".
وأردف قائلاً: "لم يكن خافياً الدور البارز الذي أدّاه ويؤديه هذا الشارع العريق في تكريس الثقافة بمختلف المراحل".
إن الذي يعوَّل عليه في شارع المتنبي في جولاته الأسبوعية، أن حدائقه تحوي العديد من أماكن وأرائك اللقاءات، يتجمهر فيها وحولها الكثير من الناس، مثقفين وهواة وشباب، يطلقون صيحات الأخوة العراقية شعراً ونثراً، وآخرون يدخلون بحوارات معمقة، أقل ما فيها أنها تخرج عراقياً ينبذ الطائفية والمذهبية ويدعو لعراق موحد.
وإذا قيل سابقاً إن القاهرة تؤلف، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ، فإن مؤسسة المتنبي اليوم اختزلت تلك الثلاثية العربية في بغداد بالتأليف والطباعة والقراءة.