تدور في خضم المعارك بين القوات
العراقية، ومن ضمنها البشمركة الكردية وقوات موالية للحكومة وعشائر سنية، من جهة، وتنظيم الدولة الاسلامية من جهة خرى، حرب من نوع آخر، سلاحها الرايات التي تحمل رمزية دينية تعكس جوانب طائفية وقومية للميدان العراقي المتشعب.
وفي حين يقتصر دور الرايات في الحروب إجمالا على تحديد مناطق السيطرة والانتصار، فإنه يشكل في العراق دليلا على نزاعات دينية تعود إلى قرون مضت، ووسيلة لإثبات الوجود، أو حتى "فخا" للإيقاع بالخصم.
ويقول الخبير في "معهد دراسة الحرب" أحمد علي لوكالة فرانس برس: "في العراق حاليا ثمة حرب رصاص ورايات، والاثنتان لا تنفصلان".
ويضيف: "نفسيا، زرع العلم مهم جدا، ويخبر العدو أنك موجود في منطقة معينة، ويطور شخصية وهوية لمجموعتك".
ومنذ الهجوم الكاسح للتنظيم السني الجهادي في حزيران/ يونيو، وسيطرته على مناطق عدة وانهيار بعض قطاعات الجيش، فقد لجأت السلطات العراقية إلى مجموعات شيعية مسلحة للقتال إلى جانب الجيش والشرطة وقوات البشمركة الكردية، إضافة إلى عدد من العشائر السنية.
وتنضوي هذه المجموعات تحت مسمى "الحشد الشعبي"، وأبرزها "منظمة بدر" و"عصائب أهل الحق" و"سرايا السلام" و"كتائب حزب الله"، التي اتهمتها منظمات حقوقية بارتكاب إساءات بحق السنة خلال الحرب المذهبية بين العامين 2006 و2008.
وعادت هذه المجموعات إلى حمل السلاح للقتال إلى جانب القوات الأمنية، تلبية لنداء المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني.
ورغم مناشدة السيستاني للطرفين اعتماد العلم العراقي حصرا في المعارك، فإن الرايات الحسينية لا تزال ترفع في ميدان المعركة وعلى الآليات العسكرية الرسمية، إلى جانب العلم العراقي الذي يرفع بشكل أساسي فوق المباني الحكومية والمقرات الأمنية ودوريات أمنية محدودة.
في المقابل، يعتمد تنظيم "
الدولة الإسلامية" راية سوداء كتبت فيها أولى الشهادتين "لا إله الا الله" باللون الأبيض، فوق دائرة بيضاء كتب فيها بالأسود "الله رسول محمد"، في ما يعتقد أنه "ختم" النبي (صلى الله عليه وسلم).
ويقول مدير تحرير نشرة "إنسايد إيراكي بوليتيكس" المتخصصة بالشؤون العراقية، ناثانيال رابكين، إن "بعض الميليشيات الشيعية تحاول أن تستثمر التقليد الشيعي المتعلق برايات عاشوراء عبر استخدامها لتحديد الأرض أو إظهار أن قضيتها امتداد لقضية الإمام الحسين".
ويضيف أنه "بطريقة مشابهة، يستخدم تنظيم الدولة الإسلامية علمه لإظهار نفسه مرادفا للدين، ويقول إنه طالما أن علمه يحمل اسم الله، فإن كل من يحرقه أو يحقره فهو عدو لله".
وتنتشر في شوارع بغداد رايات الإمام الحسين، ثالث الأئمة المعصومين، وأخيه الإمام العباس. كما أن هذه الرايات ترفع عند نقاط التفتيش للقوات الأمنية وعلى آلياتها العسكرية.
ويزداد انتشار الرايات خلال شهر محرم، تزامنا مع إحياء ذكرى مقتل الحسين على يد جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية في العام 680 ميلادية.
وتكتب على الرايات السوداء أو الحمراء، عبارات "لبيك يا حسين، هيهات منا الذلة"، و"يا أبا الفضل العباس يا قطيع الكفين". وبحسب الرواية التاريخية، كان العباس حامل راية الحسين، وقطعت يداه لإسقاطها.
وبات المقاتلون الشيعة يتماثلون بهذه الراية في قتال "الدولة الإسلامية".
ويقول الأستاذ في الحوزة الدينية في النجف الشيخ فرحان الساعدي: "اليوم تستخدم راية العباس في المعارك مع داعش لاستلهام تضحية الإمام الحسين وأخيه العباس، وإصباغ صفة تاريخية على الدور الذي تقوم به القوات المقاتلة".
ويوضح أن الراية تمثل "دافعا للتضحية والفداء، وإشارة إلى أن من يرفع هذه الراية يمثل منهج الإمام الحسين وأخيه العباس".
في المقابل، يستخدم التنظيم رايته التي يعدها "راية التوحيد" التي تجمع المسلمين السنة تحت "خلافته" التي أعلن إقامتها نهاية حزيران/ يونيو.
ويرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية المعاصرة رومان كاييه، أن هذه الراية بالنسبة لمقاتلي التنظيم "هي هويتهم، وهم فخورون بها"، وتتماثل مع زمن الرسول حين "كان العلم الأبيض يستخدم خارج ساحات القتال، والعلم الأسود في ساحة المعركة".
ونادرا ما يخلو إنتاج دعائي للتنظيم كالصور والأشرطة المصورة، من مقاتل واحد على الأقل يرفع رايته. ومن أبرز لقطاته الدعائية، مشهد لمقاتل بملابس سوداء يسير على تلة وهو يحمل راية ضخمة للتنظيم.
وتتداول حسابات مؤيديه على مواقع التواصل الاجتماعي، صورا تظهر فيها الراية السوداء بأعداد كبيرة، منها صورة انتشرت الأسبوع الماضي، تظهر 12 راية على الأقل مرفوعة في باحة فندق الموصل، كبرى مدن شمال العراق وأولى المناطق التي سقطت بيد التنظيم في حزيران/ يونيو.
وفي مدينة عين العرب (كوباني) في شمال سوريا، التي يحاول التنظيم السيطرة عليها منذ أكثر من شهرين، كانت إشارة اقتحامه للمدينة في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر، رفع رايته على أحد مبانيها، على مرأى من وسائل الإعلام المحتشدة على الجانب التركي من الحدود.
ويقول أيمن التميمي، الباحث في "منتدى الشرق الأوسط" والخبير في شؤون الجماعات الجهادية، إن "العلم مهم بالنسبة للدولة الإسلامية، ويشكل علامة على هويته الفريدة".
إلى ذلك، استخدم التنظيم رايته لنصب "فخ" عسكري للإيقاع بخصومه. وقتل ثلاثة عناصر من الشرطة نهاية أيلول/ سبتمبر بعد نزعهم راية مفخخة للتنظيم من موقع استعادوا السيطرة عليه جنوب غرب كركوك (شمال البلاد).
وبحسب شهود عيان، فقد اعتقل التنظيم في الشهر نفسه نحو خمسين شخصا بعد إزالة رايات له، واستبدلها برايات مفخخة لئلا يجرؤ أحد على نزعها.
ولا تقتصر الرايات على المقاتلين الشيعة أو "الدولة الإسلامية"، بل تشمل أبناء العشائر السنية وعناصر البشمركة الكردية الذين يقاتلون التنظيم.
وتعتمد العشائر بيارق من الحرير بلون واحد، عليها شعارات كالنجمة أو الهلال والسيوف. أما القوات الكردية، فترفع علم كردستان بألوانه الأبيض والأحمر والأخضر تتوسطه شمس ذهبية.
ويقول ضابط برتبة عقيد في البشمركة، إن "رفع الرايات عامل مهم في المعركة (...) العلم هو أساس النصر".