لم تكن الحياة في
اليمن مثالية، لكنها لم تكن أبداً مثيرة للاشمئزاز كما هو الحال اليوم، أقول ذلك بعد أن تلقيت بالأمس نبأ مقتل الصحفي الأمريكي، لووك سومرز، في مهمة إنقاذ أمريكية، فاشلة هي الثانية من نوعها خلال أسبوع تقريباً.
تكمن مأساوية هذه الحادثة أن ضحيتها صحفي أمريكي رائع اختار العيش في اليمن ومارس الصحافة والكتابة في صحف يمنية، كمتطوع، كان لا يتلقى سوى أجرٍ زهيدٍ، وكان يعاني شظف العيش مثل غالبية اليمنيين، وكان كذلك لأنه في الأصل ينتمي لعائلة أمريكية فلاحية أورثته لذة الإحساس بالكفاح في ظروف بالغة الصعوبة. وعليه فلم يكن مزروعاً في بيئة يمنية مضطربة، بغرض خدمة المصالح الحيوية الأمريكية، بل كان أمريكياً عادياً وهناك الملايين من الأمريكيين من أمثاله.
لقد ذهب الصحفي لووك سومرز ضحية، النشاط المتزايد لسماسرة الاختطافات، الذين عاثوا في الأرض فساداً، ودشنوا خطاً جديداً من التجارة السيئة السمعة بالبشر، حصدت الملايين من العائدات، خلال السنوات الماضية، مستفيدين من غياب الدولة أو تغييبها الذي أصبح منهجاً رسمياً لمن يحكم في دار الرئاسة بشارع ال60 الجنوبي في العاصمة صنعاء.
فكان من الطبيعي أن تتحوَّلَ البلاد إلى ملاذ مثالي لأشد العناصر عنفاً وكرهاً للحياة، وبيئة حاضنة للأفكار المتطرفة التي تحفز على الممارسات الطائشة للمليشيات المنفلتة، من عقالها، بدءاً من
القاعدة وانتهاء بالجماعة الحوثية المسلحة.
لكن أسوأ ما أنتجه غياب الدولة في اليمن أن هذا البلد تحول إلى ساحة حرب مفتوحة بين الأمريكيان والقاعدة، يعود هذا الأمر إلى بداية الألفية الثالثة تقريباً، أي بُعيد وقوع الهجوم الإرهابي على المدمرة الأمريكية (أس أس كول) في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2000، في ميناء عدن، حينها قرر الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح، أن يقايض الأمريكان، بحيث يُمكِّنَهُم من خوض حرب مفتوحة وبلا قيود في اليمن، مقابل بقائه في السلطة.
وقد استمر هذا المنهج وازداد سوءاً في عهد الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي، الذي أثبت أنه مثل سلفه لا يعتمد كثيراً على اليمنيين قدر اعتماده على المساندة الخارجية وخصوصاً تلك التي تأتي من لندن وواشنطن، ولهذا رأينا أمريكا لا تقاتل من الجو كما كانت تفعل في السابق، ولكنها تقوم بإنزال جوي، وتنسق مع مليشيات مسلحة منفلتة، معتمدة على التناقض المذهبي، ويكون ثمن هذا التعاون هو إطلاق يد مليشيا ضد اليمنيين، فيزداد الأمر سوءاً لأن التعاون بين الأمريكيين والحوثيين، حفز النشاط المتطرف من الجهة المقابلة، وعمل على اتساع الحاضنة الاجتماعية، وازدادت معه الأمور تعقيداً.
وللأسف، مقتل الصحفي لووك، ليس خاتمة الأنباء السيئة في اليمن، هناك العشرات يقتلون في مواجهات مسلحة، تحركها دوافع عديدة منها: الاستقطاب الطائفي، وسوء التقدير الذي يسيطر على ذهنية اليمنيين في هذه المرحلة، فلا يمكنهم معه التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور، ولا يستطيعون كذلك أن يثقوا بالنخبة السياسية، وبقدرتها على رسم ملامح المستقبل الذي يطمحون إليه، فيقررون الاعتماد على أنفسهم.
تتكشف النخبة السياسية في هذا البلد، عن أقبح ما يميزها من ملامح، وما تطوي من نوايا سيئة. إنها تمارس الارتهان للخارج، على نحو يثير الاشمئزاز ويولد حالةً غير مسبوقة من عدم اليقين، حيث تتدافع الأحداث المؤثرة، بلا مقدمات، وبلا مسوغات، وما ذلك إلا لأن ما يجري على الأرض اليمنية ليس من نتاج تفكير نخبوي معصور بذهنية وطنية مخلصة، بل نتاج تدخل سافر من قوى خارجية إقليمية ودولية، ما فتئت تنظر لهذا البلد على أنه زائدة دودية وتعمل دائماً على تأخير انفجارها بالمهدئات وببعض الوجبات الجيدة.
فلا تستغربوا بشأن أحدث التسريبات التي كشفت عن "مبادرة خليجية ثانية"، تسعى إلى إعادة هندسة مستقبل اليمن، من خلال ابتكار شكل جديد للدولة غير الذي ترسمه لجنة صياغة الدستور، تأسيساً على مخرجات الحوار.. إنهم يريدونها دولة من إقليمين، والمشكلة ليست في الإقليمين، وإنما في التركيبة السياسية التي ستهيمن على هذه الدولة المبتكرة، حيث لن ينصرف الجهد- وفقاً للتصور الذي تم تسريبه- سوى إلى هدم البنيان الوحدوي مهما كان متماسكاً.