في أحد شوارع
سراقب المدمرة، حيث بقايا المنازل وركام المحال التجارية ورائحة الموت التي تخيم من كل حدب وصوب، أقام أبو عمر مقهاه الصغير "هرمنا" الذي بث الحياة في عروق هذه المدينة، كما يبث النهار الربيعي الحياة في عروق فلاحي الشمال السوري.. أبو عمر الذي أصبح ومقهاه معلمين من معالم المدينة يعرفهما كل أهل سراقب ويتخذونهما مثالا للصبر والصمود.
بعد اندلاع الثورة في
سوريا، وجد أبو عمر نفسه من غير عمل، فكان لا بد له أن يترك بصمة في مدينته، الأمر الذي دفعه لأن ينشئ فيها هذا
المقهى الصغير الذي يعدّ صلة الوصل بينه وبين أبناء مدينته.
وعند زيارتنا للمقهى، أحضر لنا أبو عمر كوبين من الشاي وجلس مسندا ظهره إلى كرسي بلاستيكي، وراح يحدثنا عن المقهى، قائلا: "هذا أول مقهى في المدينة يجتمع فيه الناشطون والثوار من أبناء المدينة، ليتحدثوا كلهم عن معاناتهم وعن مشاهداتهم، ويتناقلوا أخبار المدينة والثورة والانتصارات في المحافظات السورية، والتطورات التي تحصل والحال الذي آلت إليه سوريا".
ويقول أبو عمر في حديث لـ"عربي21" إن المقهى يقدم الشاي والقهوة فقط؛ لأنهما المشروبان الشعبيان الأكثر شهرة، ولم يعد بمقدور أحد الاستغناء عنهما، كما يقوم بإيصال القهوة والشاي إلى المحال التجارية التي نجت من
الدمار، التي لا يزال قسم منها يعمل حتى الآن.
وقد حمل المقهى اسم "هرمنا"، وليس المقصود بذلك الشيخوخة أو الهرم كما هو معروف، بل إن الاسم مستوحى من رحم الثورة، حيث إن هذه الكلمة تعدّ أيقونة للثورة التونسية، على حد قول أبي عمر الذي بيّن أن هناك رابطا قويا يربط بين كل الثورات في العالم، وخاصة بين ثورات الشعوب العربية، "ورغبة مني في الحفاظ على هذه الصلة أطلقت على المقهى اسم هرمنا".
وتابع: "تستطيع أن تستشعر حجم الألم والدمار الذي حصل في مدينة سراقب عندما تجلس في المقهى وتجول بطرفك في المناطق التي يشرف عليها".
ولكن الألم الذي يستشعره أبو عمر مع كل صباح ألم من نوع آخر، فهو لا زال يذكر كيف أن الثوار كانوا يأتون إلى المقهى في كل صباح قبل توجههم إلى المعارك مع النظام، يتبادلون الأحاديث ويضحكون ويمرحون، ويشربون القهوة والشاي التي اعتادوا عليها من مقهى "هرمنا". لكن لم يبق لأحد من هؤلاء إلا ألم الذكرى، حيث قتل معظمهم. وحتى الناس الآخرون الذين لم ينقطعوا عن المقهى لم يعد يرى منهم أحدا في المدينة، حيث لجأوا بفعل الغارات الجوية إلى أماكن مختلفة.
وعلى الرغم من الدمار الذي شهدته مدينة سراقب، مع استمرار الغارات عليها بشكل شبه يومي، ونزوح عدد كبير من سكانها، إلا أن أبا عمر لا زال صامدا في مقهاه يتحدى الخراب والدمار، ولسان حاله يقول: "إن هذا البلد لا يمكن له إلا أن يبقى شامخا، وإن ما يحصل لن يستمر.. سنبقى صامدين حتى الرمق الأخير، ولن يكون لهذا النظام المجرم وجود في مستقبلنا، بل سنبني سوريا كما نشاء، وسيبقى مقهى هرمنا رمزا من رموز الصمود والتحدي قائما في مدينة سراقب حتى يمن الله على ثورتنا وتنتصر"، حسب قوله.