في مقالة سابقة طُرِحَ أن الحل في إخراج البلاد العربية من الأوضاع التي سادتها خلال الأربع سنوات الماضية، ولا سيما خلال السنتين الماضيتين، يكمن في حوار يصل إلى التفاهم بين كل من
إيران وتركيا ومصر والسعودية.
هذه المقولة أثارت امتعاضاً غير معلن من قِبَل البعض، كما أثارت سؤالاً مشتركاً ممن لا اعتراض له عليها من حيث المبدأ، بل ربما يحبذها، ولكن وجدها خيالية أو غير ممكنة التطبيق، لأن الفجوة كبيرة في ما بين الأطراف المعنية من جهة كيفية الحل المطلوب لكل أزمة كما لنوع النظام العربي – التركي – الإيراني البديل المقترح للنظام الذي ساد بعد الحرب العالمية الأولى، كما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا فضلاً عما يجري من صراع بين
تركيا وإيران حول الوضع في سورية وإيجاد الحل له أو بين
السعودية وإيران حول البحرين أو اليمن أو الخليج عموماً، أو الدور الذي تطمح له في البلاد العربية أو بين مصر وتركيا حول الوضع داخل مصر إثر الإطاحة بالرئيس محمد مرسي. ثم أضف التنافس الظاهر أو المخفي منه في ما بين الدول.
من هنا يصبح جلوس هذه الأطراف معاً على طاولة حوار بقصد التوصل إلى تفاهمات حول الأزمات الملتهبة في سورية والعراق واليمن صعباً إن لم يكن قريباً من المحال.
الذين امتعضوا من المقولة المذكورة يغلب من بينهم من يريدون بالذهاب إلى الصراعات وإلى الحسم، ولا يرون حلاً إلاّ بالحسم مهما طال ومهما ابتلع من ضحايا وخسائر فادحة وولّد من كوارث وويلات.
ولكن مشكلة هؤلاء، وإن كانوا الأقرب إلى القواعد المنخرطة في الصراعات، كونهم لا يلحظون أن الحسم بقوة السلاح هو أيضاً صعب، بل وقريب من المحال في أكثر الحالات؛ ما دامت كل من تركيا وإيران والسعودية ومصر في حالة صدام، وتلعب كلٌ دورها بين أطراف الصراع داخل كل قطر. فمعادلات موازين القوى الراهنة لا تسمح بالحسم من جانب واحد، والأهم لا تسمح لقوة واحدة أن تسيطر على الأوضاع وتفرض النظام العربي – الإيراني – التركي، الذي تريد.
هذا في الأقل ما أثبتته التجربة حتى الآن.
أما الدليل الأقوى فهو ميل أغلب التقديرات لمآلات الوضع الراهن إلى اعتبار، الأمور متجهة إلى الأسوأ فالأسوأ فالأسوأ. ومن هنا ذهب التشاؤم إلى أقصى مدى. ولم يعد من الممكن أن يسمع رأياً يمثل الحد الأدنى من التفاؤل. ويعتبره وهماً من الأوهام.
إذا كان الحسم على مستوى القطر الواحد غير ممكن أو إذا بدا بأنه ضمن الإمكان فسيجد نفسه بعد حين واقفاً على رمال متحركة، وما مثل ما حلّ بتجربة نوري المالكي ببعيد، وكذلك ما سبق وحلّ بالذين ظنوا أن الحسم سيكون من خلال صناديق الاقتراع. وإذا بهم يقفون أيضاً على رمال متحركة، وهاهي ذي التجربة نفسها تتكرر مع الحوثيين وعلي عبد الله صالح في اليمن وهم يتوجهون إلى عدن بعد صنعاء.
هذا يعني في الأقل أن معادلات موازين القوى الراهنة تجعل الجميع يبنون فوق رمال متحركة ما لم يقم التوافق الداخلي والإقليمي.
إذا أضفنا إلى ما تقدّم أن ما يجري مغمس بالدماء والضحايا والدمار وملايين المهجرين فضلاً عما راح يغرسه من أحقاد بين مكوّنات الشعب والأمة، وأخطرها ما حمل طابعاً طائفياً أو مذهبياً أو دينياً أو قومياً.
الأمر الذي يفيد، في الأقل، أن الخسائر الأهم هنا لا تعوّض ما دامت تمسّ حياة الإنسان وروحه ووعيه وليس مجرد خسائر في الأموال أو الماديات أو العمران.
وهذا لا يقتصر على طرف دون آخر حتى لو كان ثمة بعض التفاوت. ففي نهاية المطاف الكل خاسر حتى لو ربح جزئياً هنا أو هناك. فالخسارة استراتيجية ما دامت الحرب ستنتقل إلى داخل مكوّنات الأمة، ولا تنحصر لتكون حرباً بين اتجاهات سياسية.
من هنا تعود الحجة أقوى في مصلحة المطالبة بالحوار فالتفاهم الإيراني- التركي – العربي (مع مصر والسعودية أولاً) من حجة الممتعضين الذاهبين إلى صبّ الزيت على النار، كما من حجة الذين يرون في تفاهم الدول الأربع تركيا وإيران ومصر والسعودية صعباً إلى ما يقرب من المحال. طبعاً ليس ثمة تقليل لأدوار الدول العربية الأخرى فدورها ضروري بما في ذلك الضغط بهذا الاتجاه.
فبعضٌ من بُعد النظر يقول ستعود هذه الدول إلى الحوار والتفاهم بعد أن تُسفك دماء غزيرة، وتقع خسائر كبيرة، وتحل كوارث وويلات ليتبيّن، في نهاية المطاف، أن لا مفرّ من الحوار فالتفاهم داخلياً وإقليمياً وغيرهما لا يقل صعوبة واستحالة.
ومن ثم ليست دعوة الحوار فالتفاهم ضرباً من الخيال والأحلام وإنما هي الواقعية بعينها. وهي التي يجب أن يعلو صوتها على صوت الانقسامات والعداوات وهدير الطائرات والصواريخ وأزيز الرصاص في ما بين أبناء الوطن الواحد، ومكوّنات الأمة الواحدة، ودول المنطقة الدينية والحضارية والجغرافية الواحدة.