بدل أن يبحث الصحافيون في "يوم
الحريات " الصحفية عن التشريعات والمقررات والمناخات التي تسمح لهم باستنشاق أنفاس الحرية والاستقلالية، أصبحوا يبحثون عن "راتب" آخر الشهر، أو عن فرصة عمل بديلة بعد أن فُصلوا من عملهم، أو عن قرار رسمي يطمئنهم على استمرار صحفهم بالصدور، وعدم إغلاقها بذريعة الإفلاس.
أرأيت كيف تحولت
المهنة إلى "لعنة" تطارد أصحابها، وكيف وقف الجميع صامتين أمام "محنة"
الصحافة الورقية التي كثيرا تسابقوا للاستعانة بها في نشر أخبارهم وإنجازاتهم، أو للتغطية على أخطائهم وتقصيرهم، وكيف تحول الصحفيون إلى أيتام على موائد فارغة حتى من "مقبلات" الوعود وجبر الخواطر المكسورة.
من يستطيع أن يتحدث عن الحريات في وقت لا يجد فيه الصحفي لقمة
العيش، ولا مصاريف الأولاد، ولا يأمن على نفسه من الفصل ولا يعرف إلى أي مهنة سيتحول بعد أن قضى عمره في مهنة المتاعب، من يستطيع -بصفة صحفي- أن يناقش مرتبة بلدنا على قائمة الحريات الصحفية في العالم وهو مهدد بـ"الانقراض" والصحافة التي يعمل فيها مدرجة على قائمة الإغلاق، والحكومات التي يتهمها بتقييد الحريات لم تتحرك لفك القيود عن البطون الجائعة، ورفع الظلم عن الأقلام المكسورة والمحبطة، وإنقاذ أذرع الدولة التي كانت أذرعاً وتحولت إلى أعضاء مشلولة وخشب مُسنَّدة، معروضة للبيع او للتصفية.
لم يتحرك احد لكي يقول للصحافيين في يوم حرياتهم: شكرا لكم، أو يستنكر المأساة التي تحاصرهم، أو يهمس في آذانهم بكلمة تشعرهم انهم جزء من الوطن، وتذكّرهم أن ما قدموه يستحق الاحترام.
بوسع الصحافة، التي اقتنعت أخيرا أنها مثل "خبز الشعير" مأكولة مذمومة، أن تحدق في مرآتها لتكتشف ما فعلته بنفسها، وما فعله الآخرون بها، وتحاسب كل الذين استغلوا هذه المهنة الشريفة، وركبوا موجتها واختطفوها، حتى إذا وقعت في المصيدة أو أصابها الهرم قذفوها بحجارتهم وأطلقوا عليها الرصاص.
بوسع الصحافة، التي تجتر خيبتها مع انكشاف ظهرها وأفول شمسها، أن تعيد حساباتها من جديد، فهزيمتها في معركة الحريات أوصلتها إلى الهزيمة في مواجهة "الأمعاء الخاوية"، وفشلها في البقاء على كرسي "صاحبة الجلالة" انتهى بها إلى الجلوس على الرصيف، كما أن قطيعتها مع جمهورها الحقيقي الذي هو الناس، افقدها القدرة على تسويق بضائعها، وأغرى مدمني التصفيق لإسدال الستارة على الفصل الأخير من مسرحية البقاء للأقوى .
عن أي حريات صحفية نتحدث ونحن نواجه صراعا على الوجود لا على الحدود، وعن أي مهنية نتساجل والصحفيون يودعون مهنتهم، ويهاجرون إلى البطالة، أو ينتظرون موعد إشهار وفاة صحافتهم الفقيدة للمشاركة في الجنازة التي ربما لن يسير فيها إلا القليل من الذين ما زالت المهنة تسري في دمائهم، وعن أي انحيازات أخلاقية لرسالة الصحافة يطالب البعض ونحن في "مأتم" أخلاقي انتحرت فيه قيم واعتبارات كنا نظن أنها حقائق فاذا بها مجرد أوهام؟!
في يوم الحريات الصحفية لا يشعر الصحفي بالحزن على الحرية التي غابت أو انتهكت، ولا على المهنة التي تم اغتيالها، ولا على تعب الليالي بين الحروف وحبر المطابع، بل يشعر بالخيبة على دولة أكلت أبناءها، وعلى مجتمع تنكر للأقلام التي تدافع عن حقوقه وقضاياه، حتى نسي أن يذكرها بخير على قاعدة "اذكروا محاسن موتاكم".
أزمة الصحافة اليوم ليست فقط أزمة حريات، بل أزمة "رغيف" وجوع، وأزمة ضمائر ماتت، وأزمة أحكام صدرت بالإعدام غيابيا، وهي أولا وأخيرا أزمة دولة، وليست أزمة صحافة فقط.
(نقلا عن صحيفة الدستور الأردنية)