يحتفي معارضو الانقلاب في
مصر بأي خبر قد يؤشر على تصدع جبهة النظام، ويلتقطون بشكل طفولي أحيانا أي دلالة في هذا الاتجاه، سواء كانت على شكل تصريحات معارضة للسيسي من معسكر الانقلاب، أو ببعض المناوشات الإعلامية التي تجري داخل "البيت الواحد" من وقت لآخر.
هذا الاحتفاء مفهوم في عالم السياسة، إذ إن تصدع جبهة النظام سيفيد الثورة أو المعارضة بلا شك، ولكن الاتكاء عليه بهذا الشكل المبالغ يدل على حقيقة واحدة، وهي أن الثوار ينتظرون الانتصار اعتمادا على ضعف الطرف الآخر لا قوتهم.
والحقيقة أن هناك مؤشرات على وجود بعض التراجعات في جبهة الانقلاب، تمثلت بظهور الفريق شفيق الجديد في الإعلام ونقده القوي للسيسي، وقد رأى فيه البعض دليلا على إمكانية استخدامه من الدولة العميقة وحلفائها، الذين باتوا يلاحظون تراجعا في موقف
السيسي بسبب الفشل الكبير في الأصعدة كافة.
ومن المؤشرات أيضا، تراجع الدعم الاقتصادي الخليجي بعد استلام الملك سلمان الحكم في السعودية؛ وبعد وصول أهم الداعمين إلى قناعة بعدم إمكانية استمرار الدعم غير النهائي وغير المشروط للنظام، وقد تبدى ذلك في التعامل
الإماراتي مع مشروع العاصمة الجديدة في القاهرة، وفرض شروطها كاملة على الشريك المصري في هذا المشروع.
ويضاف إلى ذلك بعض الإقالات التي أجراها السيسي في صفوف الجيش، والتي طالت أحد عشر لواء من المخابرات مؤخرا، والتخلي قبل أسابيع عن شريكه الرئيسي في الانقلاب وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، وهي إجراءات قد تقرأ باتجاهين متناقضين: الخلافات في صفوف الانقلاب أو شعور السيسي بأنه بات متمكنا من عناصر القوة، لدرجة تجعله قادرا على التخلي عن شركائه بغض النظر عن قوتهم ودورهم في المرحلة الانتقالية.
إلا أن هذه المؤشرات على أهميتها، لا يمكن أن تشير إلى تصدع جذري بجبهة النظام، ولا يمكن التعامل معها باعتبارها طريقا يوصل إلى نتيجة واحدة هي التخلي عن السيسي أو ضعف النظام، ولكنها قد تصبح مؤثرة إذا ترافقت مع إجراءات من المعارضة وشركاء الثورة، تساهم في تعميق أزمة النظام، وتؤدي إلى إضعافه للدرجة التي يمكن معها أن يتراجع أو ينهزم تماما.
وإضافة لذلك، فإن هناك إجراءات يومية متتالية تدل على أن الخلافات داخل معسكر الانقلاب، لا تعدو كونها خلافات العائلة الواحدة، بينما تتفق هذه العائلة في خصومتها ومعاداتها للثورة، بل إن الأيام الأخيرة تدل بشكل لا يدع مجالا للشك أن النظام يتجه لتصعيد عدائه للثورة ولكل إرث يناير، وقد بدا هذا واضحا في المقدمة السياسية للحكم على مرسي وإخوانه في قضيتي التخابر والهروب من السجن، وهي مقدمة كانت في الأساس محاكمة وإدانة لثورة يناير، وليس لمرسي والمناضلين الآخرين الذين حوكموا معه.
محاكمة
ثورة يناير تزامنت أيضا مع التسريبات عن إيصال النظام رسالة للسعودية مفادها أن لا مكان للمصالحة مع الإخوان، ومع تصريحات لخبير أمني، وهو مصطلح يستخدم لوصف أذرع النظام العسكري، قال فيها إن قضية كبيرة تعد للتحقيق مع عدد كبير من ثوار يناير، بتهمة التخابر والخيانة وتلقي الأموال من الخارج لزعزعة النظام والدولة في أثناء يناير.
ومما لا شك فيه أن هذه الأحداث تدل جميعها على أن النظام لا يزال موحدا ضد ثورة يناير بكل أطيافها، وأنه، برغم الخلافات الداخلية، مُصرّ على إنهاء أي إرث لهذه الثورة، وأنه بعد إدانة مرسي ورفاقه وبعد إدانة الشخصيات الذين سيجري معهم التحقيق في القضية المذكورة إذا حصلت كما هو متوقعا، قد يقوم باللجوء لتغيير مقدمة دستور عام 2014 ليلغي فيها أي إشارة أو إشادة بثورة يناير، وليقتصر على اعتبار "ثورة يونيو" المزعومة هي البداية لتاريخ التغيير، فيما تتحول يناير إلى مجرد مؤامرة خارجية نفذت بأذرع داخلية.
وبمقابل هذه الوحدة في معسكر النظام، على الأقل بمواجهة ثورة يناير، لا تزال المعارضة للانقلاب متفرقة، سواء تلك المعارضة الجذرية التي عارضته منذ اليوم الأول ممثلة بالإخوان وحلفائهم، أو الثوار الذين باتوا يدركون مع مرور الوقت أن الانقلاب سرق ثورتهم، وهو ما يعني أن المسار الحالي للمعارضة لن يؤدي بأي حال للانتصار على النظام، حتى لو ظهرت فيه بعض علامات التصدع.
أمام هذه الحالة، فإنه لا حل سوى بمبادرة توحد صفوف المعارضة بمواجهة النظام، بدلا من المبادرات التي تظهر بين حين وآخر لإجراء مصالحة مع النظام؛ يعلم الجميع أن نتيجتها محسومة تماما لنظام قوي وموحد أمام معارضة ضعيفة ومتفرقة.
صحيح أن الثوار جرى بينهم الكثير منذ سقوط مبارك إلى اليوم، وصحيح أن لكل طرف منهم روايته الخاصة للأحداث التي تحمل الطرف الآخر المسؤولية عن سرقة الثورة، ولكن كل هذه الأطراف تتفق على أن الثورة أفشلت وتحولت إلى كابوس دموي أعاد نظام العسكر بدموية أكثر، وباستبداد أكبر، وبمقاربات أقل ميلا للمواءمات السياسية التي كان ينتهجها نظام مبارك.
رموز ثورة يناير الذين يعارضون النظام اليوم مثل قادة الإخوان وعبد المنعم أبو الفتوح وشباب الثورة، مطالبون بتنحية الخلافات الأيدولوجية والنظرية، والتوجه لإطلاق مبادرات للوحدة على شعارات الثورة؛لإعادتها على سكتها الصحيحة، بهدف الوصول إلى كتلة شعبية صلبة تنهك النظام وتضطره لتقديم التنازلات، وبعد ذلك يمكن للتجربة الثورية، إذا تم ترشيدها وإذا حققت الانتصار، أن تنتج "النظرية" الجمعية التي ستؤسس لمصر جديدة، بل لمشرق عربي جديد.