في سياق تحول
مصر إلى دولة فاشلة، تتنامى النزعة الفاشية للانقلاب العسكري، وترتفع وتيرة استخدام القوة المفرطة والنزعة الاستئصالية، ويصبح إرهاب الدولة ضرورة وجودية تحت ذريعة حفظ الاستقرار وحماية النظام، وكلما تعرض حكم الانقلاب في بنيته القمعية العميقة لضربات موجعة من جماعات جهادية لا تخشى التصنيفات الإرهابوية الدولية فضلا عن المحلية، صب جام غضبه على حركات إسلامية سياسية سلمية.
فعندما تعرضت مكونات الدولة الانقلابية السيادية للاهتزاز عقب اغتيال النائب العام، طالب قائد الانقلاب بقوانين إرهابوية جديدة تحقق العدالة الانقلابية الناجزة، التي تسمح بتنفيذ أحكام إعدام "
الإخوان"، وعندما ضربت ولاية
سيناء التابعة للدولة الإسلامية مجموعة من الأهداف العسكرية والأمنية الصلبة، قامت أجهزة الانقلاب الأمنية بإعدام مجموعة من قيادات "الإخوان" خارج إطار القانون.
لقد بات السلوك الانقلابي في تعزيز قبضته على السلطة والحكم واضحا وبائسا، إذ يقوم النظام العسكري باستثمار العنف لتقديم نفسه خادما أمينا في "نادي الحرب على الإرهاب"، لكن النظام على خلاف سدنة سردية الحرب على الإرهاب الدولية يوسع من مداركه الإرهابوية لتشمل حركات سياسية اجتماعية إسلامية سلمية، وفي صلبها جماعة "الإخوان المسلمين"، فقد كانت خطة الانقلاب غاية في البساطة بالتخلص من الإخوان كقوة سياسية اجتماعية تتمتع بالإسناد الجماهيري والشرعية التاريخية كحركة سلمية غير عنيفة، برهنت ثورات الربيع العربي على صعوبة هزيمتها عبر صناديق الاقتراع، حيث فازت الجماعة في مصر بكافة الاستحقاقات الانتخابية الديمقراطية.
سياسة التنكيل بالإخوان، والتدرج نحو الاستئصال، وإعادة بناء جدار الخوف الذي تهشم عقب ثورة يناير، وتثبيت أركان الدولة العميقة بأجهزتها القمعية والإيديولوجية التي تعرضت للاهتزاز، وترسيخ الدولة العسكرية البوليسية، هي محاور خطة الانقلاب العسكري تحت ذريعة حفظ النظام وتأمين الاستقرار، وفي سياق التخلص من المساءلات تم وصم جماعة الإخوان المسلمين، وهي حركة إسلام سياسي سلمية، بكونها حركة إرهابية تمارس العنف لأغراض سياسية، حيث قرر مجلس وزراء الانقلاب المصري في 25 كانون أول/ ديسمبر 2013 اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وتنظيمها تنظيما إرهابيا.
وعلى الرغم من بروز جماعات إسلامية راديكالية، كأنصار بيت المقدس وأجناد مصر، وإعلانها بوضوح عن مسؤوليتها عن أعمال العنف والهجمات المسلحة، إلا أن الانقلاب لا يزال يصر على أن جماعة الإخوان هي من تقف وراء العمليات والهجمات، وهي استراتيجية عمد إليها الانقلاب لعدم تشتيت المنظور الانقلابي وإدراكاته حول المخاطر التي تهدد سلطته، فاعتراف الانقلاب بجماعات عنيفة أخرى تقف خلف الهجمات سوف يؤدي إلى ترميم شرعية الإخوان، وازدياد شعبيتها، في مقابل التهكم على حكم العسكر وإدانته كسبب رئيسي للعنف.
يحرص الحكم العسكري على التمسك بروايته المتعلقة بماهية العنف والإرهاب وربطهما بخصمه الأساس "الإخوان المسلمون"، ففي كل مرة كانت الجماعات الجهادية تنفذ عملياتها المسلحة وتشن هجمات منسقة وتلحق بالجيش خسائر فادحة، كانت سلطة العسكر تحمّل الإخوان مسؤولية العمليات وتعقبها بسلسلة من الإجراءات الصارمة ضد الجماعة، إلا أن النظام العسكري بدا أكثر سلطوية وأشد عنفا خلال الأيام الأخيرة، عقب تلقيه ضربة موجعة باغتيال النائب العام
هشام بركات في 29 حزيران/ يونيو 2015م، بسيارة مفخخة استهدفت موكبه في حي مصر الجديدة شرقي القاهرة، الأمر الذي دفع
السيسي إلى المطالبة بمزيد من الأحكام والقوانين الرادعة لإنجاز العدالة.
وكالعادة، اتهم الإخوان من خلف القضبان بالتخطيط، ودعا إلى تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة من خلال تعديل الإجراءات القضائية، فبحسب أنصار الانقلاب، فإن الإشارة بالذبح من داخل القفص التي بادر بها الرئيس الأسبق محمد مرسي أثناء محاكمته، وسبقت اغتيال النائب العام بوقت قصير، وقع في سياق سلسلة من الرسائل التهديدية لقادة وأنصار جماعة الإخوان التي ينتمي لها مرسي، لكن التفسير الإشاري للانقلاب هو المنهج المعتمد في المنظومة التفسيرية الإرهابوية، على الرغم من إدانة مكتب جماعة الإخوان المسلمين المصرية بالخارج، اغتيال النائب العام هشام بركات، وتحميله سلطات الانقلاب العسكري المسؤولية عن الحادث.
بعد يومين من حادثة اغتيال النائب العام، استيقظ قادة الانقلاب على وقع سلسلة من الهجمات المنسقة المتزامنة على مقار عسكرية وأمنية في محافظة سيناء المصرية في 1 تموز/ يوليو 2015، وهي الهجمات الأضخم والأعنف منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، فقد أسفرت الهجمات عن سقوط عشرات القتلى والجرحى من جنود وضباط الجيش والشرطة، حيث شن تنظيم الدولة الإسلامية - ولاية سيناء سلسلة من الهجمات في عدد من المناطق شمال سيناء كان أبرزها في مدينتي رفح والشيخ زويد.
وفي بيان للتنظيم على موقع "تويتر"، تبنى فيه العمليات جاء فيه: "في غزوة مباركة يسّر الله أسبابها، تمكن أسود الخلافة في ولاية سيناء من الهجوم المتزامن على 15 موقعا عسكريا وأمنيا". وكشف التنظيم عن تفاصيل العمليات التي قام بها، مبيّنا أنّها تضمنت ثلاث عمليات "استشهادية".
أطلق تنظيم الدولة الإسلامية - ولاية سيناء على العملية اسم "غزوة الشيخ أبي صهيب الأنصاري تقبله الله"، وهو إحدى أهم الشخصيات في ولاية سيناء، وكان أحد مؤسسي أنصار بيت المقدس، واسمه توفيق محمد فريج وكنيته الأخرى أبو عبدالله، والذي قضى نحبه الثلاثاء 10 جماد الأول 1435 هـ الموافق 11 آذار/ مارس 2014 في حادث سير انفجرت على إثره قنبلة حرارية كان يحملها فتوفي متأثرا بجراحه، بحسب بيان النعي، والذي جاء فيه: "كان رحمه الله من أصحاب البصمات الفريدة في تاريخ العمل الجهادي في سيناء، فقد رافق الدكتور خالد مساعد أمير التوحيد والجهاد، ثم من بعده الشيخ نصر خميس رحمهما الله، وكان من المؤسسين الأوائل لجماعة أنصار بيت المقدس، شارك وقاد كثيرا من العمليات التي قامت بها الجماعة سواء التي عرفت أو التي لم يقدر الله لها أن تتم، ومن أبرز أعماله رحمه الله:
كان صاحب فكرة تفجير خطوط الغاز الموصلة للكيان الصهيوني، وقاد أول تلك العمليات وبعض العمليات التي تلتها، وكان القائد الميداني لعملية إيلات الكبيرة في رمضان 1432 هـ، وشارك في غزوة التأديب لمن تطاول على النبي الحبيب، وكان موكل إليه مهمة إيصال الانغماسيين داخل حدود فلسطين المحتلة.
وقد رحل إلى أرض الكنانة بداية عام 2013، واستقر بها، وتولى الإشراف على فرع الجماعة هناك، الذي قام فيما بعد بعمليات كثيرة ضد نظام العمالة والخيانة، وكان من أهمها محاولة اغتيال سفاح الداخلية محمد إبراهيم". وكان يعتقد أن فريج هو زعيم التنظيم، لكن منذ بيعة أنصار بيت المقدس لتنظيم الدولة في تشرين ثاني/ نوفمبر 2014، تولى منصب أمير ولاية سيناء أبو أسامة المصري، وعين كمال علام بمنصب القائد العسكري.
وقد فجر تنظيم داعش الإرهابي في مصر والذي أطلق على نفسه اسم "ولاية سيناء" مفاجأة من العيار الثقيل، حيث أطلق إصدارا مرئيا جديدا أكد فيه على أن أميره في سيناء ليس "كمال علام" كما أكد البعض، بل إنه أبو أسامة المصري شرعي جماعة أنصار بيت المقدس وقائدها ومتحدثها السابق قبل إعلان مبايعتها لأبي بكر البغدادي، والذي اختفى عن المشهد منذ ما يقرب من عام كامل.
بالتزامن مع تعرض قوات الجيش والشرطة المصرية للقتل والتنكيل والإذلال في سيناء على يد قوات ولاية سيناء التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، ذهبت قوات الأمن للثأر من جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة في خطوة استباقية للحيلولة دون تشتيت المنظور العسكري للانقلاب تحت ذريعة الثأر لأرواح الشهداء، وبحسب الرواية الأمنية "قامت قوات الأمن باقتحام شقة لخلية إرهابية بأكتوبر أسفرت عن مقتل 9 إرهابيين خلال تبادل لإطلاق النار".
وأكدت على أن "الجناة متورطون فى حادث تفجير محيط قسم ثان، وفي اغتيال النائب العام"، إلا أن رواية الإخوان أكدت أن الضحايا هم 13 من قيادات الإخوان، وأن الضحايا كانوا عزلا، وأنهم قتلوا بدم بارد بعدما تم التحفظ عليهم وأخذ بصماتهم، حيث وقعت التصفية بإحدى شقق مدينة 6 أكتوبر، وكان عدد من قياداتها اجتمعوا بالشقة لمدارسة كيفية دعم أهالي القتلى والمعتقلين باعتبارهم أعضاء اللجنة المركزية لدعم أسر الشهداء والمصابين، وكان من بين الضحايا مسؤول المكتب الإداري للإخوان بالمنوفية جمال خليفة، ومسؤول لجنة رعاية أسر الشهداء والمصابين عبد الفتاح محمد إبراهيم، والبرلماني السابق ناصر الحافي مسؤول اللجنة القانونية، ومسؤول مكتب الإخوان بالقليوبية طاهر أحمد إسماعيل، وهشام زكي خفاجي، وأسامة أحمد الحسيني، وهشام ودح، ومعتصم أحمد العجيزي، وخالد محمود، ومحمد السباعي، ومحمد سامي، وجمعة أبو العزم.
لم تقتصر الإجراءات السلطوية للانقلاب على الاعتقال والقتل والإعدام خارج القانون، التي قد تجلب عليها المسائلة، بل عمدت إلى تطويع الأجهزة التنفيذية والقضائية للسلطة العسكرية، فقد أعلن رئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب عن خضوعه التام للمؤسسة العسكرية وقال نحن في حالة حرب وسنرفع للرئيس عبد الفتاح السيسي قوانين لمحاربة الإرهاب، وسرعان ما أعلن مجلس الوزراء بعد اجتماعه الأسبوعي، إنه "اتخذ من الإجراءات ما يردع تلك الجماعات الإرهابية، وهي إقرار حزمة من مشروعات القرارات بقوانين تحقق العدالة الناجزة والقصاص السريع، والموافقة على مشروع قرار بقانون مكافحة الإرهاب"، وهو قانون يعزز من سلطة المؤسسة العسكرية ويحميها من المسائلة تحت ذريعة حرب الإرهاب.
على الرغم من عمليات القتل والتنكيل والاعتقال التي طالت جماعة الإخوان المسلمين منذ الانقلاب، إلا أنها لا تزال متمسكة بنهجها السلمي وعدم التورط بالعنف، ويبدو أن موقف الجماعة هو من يمنع دخول مصر حتى الآن في حالة من العنف والفوضى الشاملة على نقيض دعوى المؤسسة العسكرية، لكن الجماعة تتعرض لضغوطات شديدة من الأجيال الشابة الجديدة باعتماد خيارات أكثر راديكالية، في ظل بروز جماعات إسلامية جهادية تناهض السلمية وتؤمن بالعنف كخيار وحيد للتغيير، الأمر الذي أدى إلى تنامي الجماعات الجهادية وزيادة جاذبيتها وقدرتها على التجنيد والاستقطاب ودشن تطورا نوعيا في عملياتها منذ الانقلاب.
لكن الانقلاب يجد صعوبة بالغة بإقناع المجتمع الدولي ونادي محاربة الإرهاب بكون جماعة الإخوان منظمة إرهابية، فعقب الأحداث الأخيرة قال سفير الاتحاد الأوروبي لدى مصر جيمس موران إنه ليس هناك مبرر لإدراج جماعة الإخوان المسلمين في لائحة "الجماعات الإرهابية" في أوروبا، منتقدا "العقلية الأمنية" التي تتعاطى بها السلطات المصرية مع قضايا "الإرهاب"، وفي حلقة نقاشية في القاهرة، أكد موران أن الاتحاد الأوروبي لا يجد دليلا ضد جماعة الإخوان المسلمين لإدراجها ضمن لائحة "الجماعات الإرهابية" في أوروبا، مضيفا أنه لا يوجد أيضا ما يبرر إغلاق مكاتب الجماعة في دول الاتحاد.
خلاصة القول أن سياسة الانقلاب المستندة إلى تثبيت الدكتاتورية لا تزال تصر على المضي قدما في الخطة الانقلابية الرامية لاستدخال "الإخوان" في قوائم المنظمات الإرهابية، لكنه يعجز عن البرهنة على خياله الإرهابوي دوليا، إذ يدرك الجميع أن عملية عزل ومحاصرة وإضعاف جماعة الإخوان المسلمين في مصر ساهمت في بروز سردية إسلامية جهادية مصرية أشد صلابة وأكثر تمسكا بحدود العلاقة الصراعية الوجودية مع النظام الانقلابي المصري.
فالتعامل مع جماعة الإخوان باعتبارها حركة إرهابية ساهم في تصاعد نفوذ الجهادية العالمية في مصر، ورفض التعاون مع حركات إسلامية أكثر براغماتية يقود إلى بروز أجيال أكثر راديكالية، وإذا أصرت الدكتاتورية الانقلابية المصرية على خياراتها باستئصال الإخوان، فإن الدولة المصرية ستنحدر إلى مسارات الفشل التام، كما أن فرص الراديكالية تغدو واعدة بالازدهار، وما يدركه الخبراء جيدا أن عدم دخول مصر في نفق العنف والانهيار الكامل هو بسبب تمسك الإخوان بالسلمية وليس القوة السلطوية العسكرية الإرهابوية.