الأمر أكبر بكثير من مجرد إلغاء قانون أصدره سلفه، هو أقرب إلى اعتراف ضمني بانهيار التحالفات التي سعى إلى تشكيلها على مدار عام كامل، وبقلة الثقة في أركان نظامه التي لم تثبت بعد وإن أوهموا الكثيرين بأنها كالطود الراسخ، وبإصراره على استنساخ برلمان 2010 بحيث لا يفوز إلا من تقرر الدولة فوزه وإلا سنحل البرلمان وكل واحد يلعب عند بيته.
ربما كان القرار الذي أصدره الرئيس عبد الفتاح السيسي بإلغاء قرار رئيس الجمهورية المؤقت المستشار عدلى منصور بالقانون رقم 26 لسنة 2014 والخاص بتعديل بعض أحكام قانون المحكمة الدستورية العليا، هو البديل الوحيد لإلغاء الانتخابات البرلمانية أو تأجيلها لعام آخر.
القانون الجديد يلغي تحديد مواعيد للمحكمة الدستورية للنظر في قوانين الانتخابات، وهو ما يعني أنها أصبحت تملك سُلطة إصدار أحكامها بعدم دستورية قوانين الانتخابات في أي وقت حتى بعد بدء انعقاد البرلمان وهو ما يعني حله كما حدث مع برلمانات 1984 و1987 و2012.
السيسي قالها صريحة منذ فترة، هو لا يريد معارضة في البرلمان القادم، هو يريد أن تجلس القوى السياسية مع بعضها وتتقاسم المقاعد فيما بينها، ثم ينزل المرشح التوافقي في انتخابات الدائرة وحده فيما يشبه الاستفتاء، لم تعترض القوى السياسية والأحزاب على ذلك بل ورحبت به بالنظر إلى المرحلة الدقيقة التي يمر بها الوطن وعنق الزجاجة الذي انحشر فيه، لكن حين حان موعد التنفيذ وجد السيسي أن هذا المرشح التوافقي الذي ستستقر عليه الأحزاب قد ينهزم بسهولة أمام مرشح يدعمه أحمد عز، ومن هنا جاء تأجيل القوانين مرة تلو الأخرى لحين الوصول إلى صيغة تضمن برلمانا يبصم على قوانين وقرارات الرئيس دون إزعاج.
يبدو أن إلغاء قانون عدلي منصور الذي كان يحصن البرلمان من الحل عن طريق رقابة المحكمة الدستورية على قوانين الانتخابات وتقسيم الدوائر قبل إجراء الاقتراع، كان هو الحل الذي توصل إليه ترزية القوانين المحيطين بالرئيس، حتى يكون خيار حل البرلمان متاحا لو شكّل عقبة في طريق رغباته أو إذا كانت تركيبته وأغلبيته لا تتوافق مع ما يريد.
المضحك أن السيسي نفسه كان يبرر تأخير الانتخابات البرلمانية كل هذا الوقت برغبته في استقرار البرلمان وحتى لا يكون عرضة للحل، والآن أصدر هو بنفسه قانونا يجعل سيف الحل على رقبة المجلس القادم طوال فترة انعقاده، حتى يستعيد الرئيس سلطة التشريع مجددا إذا ظن البرلمان أنه شريكا في الحكم ومسؤولا عن إقرار القوانين.
يصدر عبد الفتاح السيسي قانونا استبداديا كل أسبوع تقريبا، قبل أيام أصدر القانون الذي يتيح له عزل رؤساء الهيئات المستقلة من مناصبهم وأصبح مصير الجهات التي تراقبه وتراقب رجاله بين يديه، وبالأمس جاء دور إخضاع السلطة التشريعية، وقبلها منح نفسه حق تسليم المتهمين الأجانب لبلادهم في أي مرحلة من مراحل التقاضي، وأرهب كل الكتل المعارضة بقانون الكيانات الإرهابية الذي تصل عقوبته للإعدام، وجعل كل المنشآت العامة مؤسسات عسكرية.
هذا الوضع نبه إليه مبكرا ناثان براون أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، حين قال إن السيسي استغل الفراغ الدستوري في ظل غياب البرلمان، لتمهيد الطريق لأجهزة الحكم كي تعمل بحرية تصرّف واسعة وقدر ضئيل من الرقابة العامة.
قال براون هذا الكلام بعد أقل من 4 شهور من تولي عبد الفتاح السيسي الرئاسة، ومع مرور قوانينه الاستبدادية مرور الكرام في كل مرة، توحّش أكثر في استخدام سلطة التشريع لتثبيت أركان دولته ولو بالإرهاب، لكنه وبعد كل ذلك ما زال يدرك هشاشة نظامه ويخشى عليه من أحمد عز وعدد قليل من رجال النظام السابق.
لا يزال السيسي يقود البلاد إلى الديكتاتورية الكاملة، وهذا طبيعي ومتوقع من جنرال قادم من مؤسسة عسكرية لا تعترف بمصطلحات من نوعية المناقشة والديمقراطية والرأي الآخر، لكن الغريب أن ذلك يأتي وسط تهليل وتأييد أو صمت وتخاذل من ساسة وإعلاميين كانوا يقدمون نفسهم قبل الثورة وبعدها على أنهم رعاة للتعددية والحريات، رغم أن التجربة أثبتت أنهم ربما يكونوا أول ضحايا قطار الجنرال.