في دلالات قصة سليمان الحلبي

يمكن من خلال التأمل بجمجمة السوري الأزهري الشاب الشهيد (24 عاما لحظة قتله الشنيع) سليمان الحلبي قاتل كليبر خليفة نابليون نتاج الثورة الفرنسية، الموضوعة (مع سكينة الشرف المشتراة من غزة) في متحف بباريس، أن نلتقط الإشارات التالية: 

1- اضطلاع نفر من المحافِظين القدامى بأدوارهم و ومواظبتهم على حمل تكاليف الرسالة وأعباء الواجب و تصدرهم مشهد مقاومة المحتل منذ بواكير الغزوة الكولونيالية على الشرق المسلم وتحديدا مع حملة نابليون على مصر عام 1798، فلقد وثقت كتب التاريخ دورا مشهودا للأزهر ورجالاته في حث الناس على المقاومة وتأليبهم على الفرنساوي وتزعمهم ثورة القاهرة الأولى ومشاركتهم بالثانية، ولقد دفع مشائخ الأزهر ثمن ذلك غاليا على شاكلة إعدام وتنكيل وتهجير وضرب الأزهر بالمدافع وتدمير أحياء كاملة.

2- روح الانتماء عند سكان بلاد الشام المتجاوزة لإقليمهم والعابرة للحدود منذ وقت مبكر:

على الرغم من ذهاب بعض المؤرخين إلى كون سليمان كرديا من قرية "كوكان فوقاني" التابعة لمنطقة عفرين في الشمال الغربي من مدينة حلب، ورد البعض بأنه عربي من حي البياضة بمدينة حلب، إلا أن ذلك لن يغير من الأمر شيئا، فنزيل "رواق الشوام" وهو المخصص لطلاب الأزهر من بلاد الشام وتلميذ الشيخ أحمد الشرقاوي أحد مشعلي ثورة القاهرة، كان مدفوعا بشعور الأخوة والنجدة والجهاد وقتل الكافر الفرنساوي كما دلت على ذلك محاضر التحقيق، لاسيما إذا ما عرفنا حقيقة أن أربعة زملاء من غزة لسليمان وشركاء له في سكنه قد حكم عليهم أيضا بالإعدام نظرا لمعرفتهم نية سليمان قتل كليبر وتسترهم عليه، وقد نفذ في الثلاثة حكم الإعدام (استطاع الرابع الهرب والنجاة) على مرأى من سليمان قبل إعدامه هو الآخر، الأمر الذي يجعلنا غير مبالغين عند القول إنها حادثة قتل ذات طابع عربي وإسلامي شارك في تنفيذها فلسطينيون بتحريض مصري وتنفيذ سوري ورعاية تركية عثمانية كما سيظهر لاحقا.   

ومع استحضار أيلولة سوريا لاحقا ومنذ بدايات ترسيم حدودها في عشرينيات القرن المنصرم وقبل مجيء نظام الأسد بكثير، إلى مركز متقدم في تبني القضية العربية والعمل لأجلها وتخريج قادات الفكر القومي وواضعي بذوره الأوائل مثل قسطنطين زريق وساطع الحصري وفي المبادرة والأسبقية والانفراد بتطبيق تعريب التعليم الجامعي، لا يكون مفاجئا ومن دون سند هذا الحضور الكثيف للرؤية السورية المترفعة على القطرية والمحلية والمستسخفة والمشككة بشرعية التخوم والمنشغلة بقضايا الآخرين قدر انشغالها بقضيتها والحريصة على شبك القضايا وتلازمها والنظر إليها كحزمة واحدة، وهي رؤية نلمسها بوضوح في اهتمامات السوريين الراهنة وفي خضم الربيع. ولعل ضآلة القطر السوري الراهن وعدم عدالة خريطته واجتزائه من إقليم وحوض أكبر وأفسح هو بلاد الشام أو الهلال الخصيب المتضمن لحواضر مرموقة وعريقة مثل بغداد ودمشق وحلب وحماه وعدم اقتناع السوريين به كوعاء كاف لاحتواء مشاعرهم الفياضة وطموحاتهم الكبيرة، كان عاملا إضافيا زاد من انتمائهم العابر.   

وعلى الرغم من محاولة البعض تصوير حادثة قتل كليبر وكأنها صفقة أو مقايضة أجرتها السلطات العثمانية الحاكمة في الشام مع سليمان الحلبي المقيم بالقاهرة للإجهاز على قائد الفرنسيين مقابل اطراح الضرائب المفروضة على والد سليمان تاجر السمنة والزيت، إلا أنها تبقى فرضية لم تثبت بعد (رغم توفر دلائل تمويل وليس صفقة من بينها محاضر تحقيق مع سليمان وزملائه، يشكك بصحتها إجراؤها في ظروف رافقها تعذيب كما يذكر المحضر بصراحة)، وهي على فرض صحتها فإنها لا تنقص من قيمة الحدث ولا تقلل كثيرا من نبل الدافع، ولقد أحسنت الويكيبيديا الإنكليزية صنعا في مادة "سليمان الحلبي" عندما أشارت إلى ضرورة توثيق ما ذهب إليه كاتبو المادة من كون الدافع ماليا محضا، بل حتى المندوب الفرنسي الذي كلفه الجنرال مينو خليفة كليبر بإلقاء كلمة رثاء في حق الأخير أشار إلى محرض ذاتي يصفه بـ"التعصب" شجّع سليمان على القيام بفعل القتل، حيث قال في كلمة التأبين أمام مجموعة من الضباط الفرنسيين: "في سورية وقع اختيار قادة الجيش المنهزم (أي العثماني) على رجل أعماه تعصبه ليغتال القائد الفرنسي، وسرعان ما عبر الصحراء واقتفى خطوات ضحيته طيلة شهر كامل حتى سنحت له الفرصة المشؤومة ونفذ جريمته"(1)، وفي موضع آخر من الكتاب يشير الضابط المؤلف صراحة إلى ما يثبت تهافت ادعاء واحدية الدافع المادي، حيث يقول: "لقد اعترف القاتل بجريمته بل عدّها مبعثا للفخار" ولا يحصل هذا بالعادة مع مرتزق أو قاتل مأجور!! 

3- التحسر على المآل المخزي لحال الأزهر بعد أن كان رائدا في مقاومة الغزاة والطغاة:

المراقب اليوم لسلوك وتصرفات وفتاوى الأزهر سيغمره أسى عميق على مستوى الانحدار الذي وصل إليه. ذلك أن التغير الكبير الذي طرأ على الأزهر ليس من النوع المنطقي أو المقبول، فلقد وصل الحال به إلى أن ينقلب لمركز تشبيح ووشاية وتنكيل وفصل للطلاب وحرمانهم من إكمال تعليمهم على خلفية مشاركة بمظاهرة بسيطة لا تتعدى أسوار الجامعة. ناهيك عن ابتذال خطابه ورضاه بأن يصدر فتاوى غب الطب وطبقا للقياسات وكأنه جهاز حكومي دون أي استقلالية ونزاهة ومسافة فاصلة كما يليق بأحد أهم قلاع العلم والمعرفة الشرعية في العالم الإسلامي. وبعد أن أن كان الأزهر كما يصفه خليفة كليبر ،الفرنساوي المتأسلم عبدالله مينو، "محلا لعقد المشورة وإيقاظ الفتن" في إشارة إلى دوره في التثوير، وليس فقط "محلا للدرس والتعليم للفرائض والسنن" فأمر على إثر ذلك "بطرد المجاورين (أي الطلاب الذين يفدون إلى الأزهر وينقطعون إلى الدراسة فيه) وقفل أبوابه أجمعين" (1)، ها هو الآن مع جمعة والهلالي يصبح تجمعا لحملة المباخر ومروِّجي السلطان ورديفي المخابرات وعيون المباحث. 

4- قدرة الإيمان على خلق نماذج إنسانية فذة في صبرها وعزمها وثباتها: 

لا يقتصر ذلك على الإيمان الإسلامي فحسب، ففي عصر ما عرف بـ"الشهداء" ضرب المؤمنون المسيحيون الأوائل أروع صفحات الثبات والصبر أمام جلاوزة الرومان الذين تفننوا بطرق التعذيب والتي كان منها إلقاء المؤمنين أمام الأسود والفهود لتنهش لحومهم في حلبات أمام العامة. فوق ذلك استطاع الإيمان الأرضي غير السماوي إن صح التعبير في بعض الأحيان ورغم غياب الجوهر المتجاوز للمادة، تقديم حالات بطولة حقيقية استبسلت حتى الموت في سبيل معتقدها وقاومت حتى الرمق الأخير في سبيل ما تؤمن به. 

يزداد تقديرنا لثبات سليمان مع قراءة رواية القتل الفظيعة، فبعد حرق يده اليمنى التي طعن بها كليبر حتى العظم، تم وضعه على وتد الخازوق كي يقتل ببطء أليم، كل هذا مع صبر وتضرع مثيرين للإعجاب، وقد ترك جسده أياما لتأكله الوحوش الضواري والطيور الجوارح.

هذا ما بدا لي ولربما أوحى التأمل بالمزيد.
 
(1): ص 170 من كتاب "مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر" لصاحبه جوزيف ماري مواريه
(2): ص141 من كتاب "الحملة الفرنسية على مصر والشام" لنقولا الترك.