صارت
مصر ضحية نجاحها في حملتها الرامية إلى تحجيم
السوق السوداء للعملة الأجنبية؛ فقرار البنك المركزي بوضع حد أقصى للودائع
الدولارية في الحسابات المصرفية ربح منه البعض، وخسر آخرون، في بلد يعاني من شح في العملة الأجنبية عقب أربع سنوات من الاضطرابات السياسية.
والرابح من هذا القرار هو البنك المركزي ذاته، الذي وضع سقفا للودائع المصرفية بالعملة الصعبة في شباط/ فبراير عند عشرة آلاف دولار يوميا، وبحد أقصى 50 ألف دولار شهريا.
ومنذ ذلك الحين حقق البنك المركزي نجاحا كبيرا في الحد من نشاط السوق السوداء، عن طريق حرمان من يشترون كميات كبيرة من الدولارات خارج القنوات الرسمية من وضعها في البنوك.
أما الخاسر فهو جيش من الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسطة التي تعمل خارج مجالي الغذاء والطاقة ذوي الأولوية، وهي شركات متعطشة للدولارات التي تحتاجها لاستيراد المواد الخام والمعدات، وساهم ذلك في هبوط الإنتاج بقطاع تقول الحكومة ذاتها إنه حيوي لتحقيق نمو اقتصادي طويل الأجل.
ومن بين رجال الأعمال المتضررين عبد الخالق محمد، وهو مستورد للأخشاب طالما عجز عن الحصول على دولارات من النظام المصرفي الرسمي، والآن لم يعد باستطاعته أيضا شراء الدولارات من السوق السوداء كما اعتاد، قائلا: "لا أستورد إلا نحو 50 في المئة من احتياجاتي".
ويلحق نقص الدولارات أضرارا أيضا بكثير من أصحاب الأعمال في مدينة دمياط، مسقط رأس محمد، وهي مركز لصناعة الأثاث بالقرب من ساحل البحر المتوسط. وأغلقت بالفعل بعض متاجر الأثاث في المدينة.
وتمخضت الخطوة التي اتخذت في شباط/ فبراير عن استقرار الجنيه المصري بعدما شهد هبوطا حادا؛ إذ أعلن محافظ البنك المركزي هشام رامز حينئذ أن السوق السوداء ستنتهي "قريبا".
وسمح البنك المركزي للجنيه بالهبوط مجددا في تموز/ يوليو، لكنه لم يتمكن حتى الآن من سد الفجوة بين أسعار الصرف في السوق الرسمية والسوق الموازية، وباع المركزي دولارات إلى البنوك الثلاثاء، حيث بلغ أقل سعر مقبول 7.7301 جنيه للدولار، بينما بلغ سعر الجنيه في مكاتب الصرافة نحو 8.05 جنيه مقابل الدولار.
وتعهد عبد الفتاح
السيسي بإعادة بناء اقتصاد البلاد الذي تضرر جراء عدم الاستقرار منذ ثورة 25 يناير، التي أطاحت بحسني مبارك من سدة الرئاسة في 2011، في حين أشاد صندوق النقد الدولي بالإصلاحات الهيكلية والنقدية.
ورغم ذلك، أثارت حملة العملة التي ترمي إلى تعزيز الاستثمار الأجنبي وتحفيز النمو ردود فعل متباينة من الخبراء الاقتصاديين، نظرا لفداحة الثمن الذي دفعه البعض.
وقال أحمد كمالي، الخبير الاقتصادي بالجامعة الأمريكية في القاهرة، إنه "تحقق الاستقرار في سعر الصرف، لكن (في المقابل) حدث نقص وظهرت معوقات.. وبالطبع إذا استمر ذلك فإنه سيضر مصر".
وأثناء حكم السيسي، واجهت بعض المبادرات الاقتصادية الحكومية صعوبات، ويرى بعض الخبراء أن سياسة مكافحة السوق السوداء لن تستمر.
بدوره، قال هاني فرحات، كبير الخبراء الاقتصاديين لدى سي.آي كابيتال: "لن يدوم ذلك. ما زال البنك المركزي حتى الآن يولى مكافحة السوق السوداء أولوية. لكن هذا ألم مؤقت من أجل علاج مرض طويل الأمد".
وقبل ثورة يناير، نما الاقتصاد المصري بنحو سبعة في المئة سنويا لعدة أعوام، وبلغ معدل النمو ثلاثة في المئة في الربع المنتهي في آذار/ مارس الماضي مقارنة مع نمو قدره 2.5 في المئة في الفترة المماثلة من العام الماضي، بحسب ما أظهرته بيانات رسمية، وتتوقع موازنة 2015-2016 نموا قدره خمسة في المئة.
ورغم اتساع الفارق بين سعر الصرف في السوقين الرسمية والموازية في الأسابيع الماضية، يقول تجار العملة إن السيولة الدولارية خارج النظام المصرفي لا تزال منخفضة.
وأصبح جميع أصحاب الأعمال الذين يكابدون للاستيراد محاصرين بين النظام المصرفي الرسمي الذي يعطي الأولوية في بيع الدولارات لاستيراد السلع والمواد الاستراتيجية، مثل الأغذية والطاقة والسوق السوداء التي تعاني من شح العملة الصعبة، وهو ما يؤدي إلى تباطؤ النمو في البلاد.
وانكمش الإنتاج الصناعي بنحو 30 في المئة في حزيران/ يونيو على أساس سنوي.
وقال جيسون توفي، الخبير الاقتصادي لدى كابيتال إيكونومكس للأبحاث، إن "مصر تملك جميع العناصر اللازمة لبناء نفسها كمركز صناعي، لكن يبدو أن الأمور على الأمد القريب أو في الوقت الراهن لا تمضي في الاتجاه المنشود في ظل القيود المفروضة على العملة".
ويقول خبراء اقتصاديون إنه لا توجد تدفقات كافية من النقد الأجنبي إلى مصر، ومن المستبعد أن يتغير ذلك؛ حيث إن قطاع السياحة -أحد دعائم الاقتصاد، الذي تضرر جراء هجمات نفذها مسلحو تنظيم الدولة- لا يزال ضعيفا، وتدفع مصر ما بين 700 مليون ومليار دولار شهريا مقابل واردات الطاقة.
وقال ألين سانديب، رئيس البحوث لدى نعيم للوساطة: "لن تحل المشكلة حتى يتم سد النقص في الطاقة."
بدوره، قال وزير البترول المصري، الأربعاء، إن بلاده سددت 600 مليون دولار من مستحقات شركات النفط الأجنبية في آب/ أغسطس، لكنها لا تزال تدين للشركات بنحو 2.9 مليار دولار.
وقال سامي خنجي، وهو ناشر كتب يعاني من شح الدولارات: "لم يعد في مصر ورق"، متحدثا وسط ضجيج آلات الطباعة الخاصة به، التي أنتجتها شركة هايدلبرج الألمانية، والتي كانت تطبع في الماضي نحو 15 مليون كتاب سنويا.
وأضاف أن المخزون من الورق المستورد انخفض كثيرا إلى حد قد يتسبب في تأخر طباعة الكتب المدرسية، متابعا: "لا أعرف كيف أحصل على ورق من الخارج في الوقت الحالي".
واضطر الكثير من أصحاب الأعمال إلى البحث عن وسائل بديلة؛ إذ قال محمد بركة، وهو مستورد إطارات، إنه تفادى القيود المفروضة على الودائع الدولارية بفتح عدة حسابات بنكية، واستخدام شركة كواجهة لإيداع المزيد من الدولارات.
ويعتمد آخرون على مكاتب صرافة لها أفرع في دول خليجية، لتحويل النقد الأجنبي إلى مورديهم في الخارج، ويؤخر البعض دفع مستحقات الموردين، وهو ما قد يؤدي إلى إلغاء العقود.
وقال أحمد شيحة رئيس شعبة المستوردين في غرفة القاهرة للتجارة: "قوض ذلك المصداقية بيني وبين الشركات التي أتعامل معها"، مضيفا بقوله: "نحاول أن نجعلهم يتفهمون أن ذلك ليس بسببنا، وإنما بسبب قرار فرض علينا، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية في البلاد."