كتب علاء الدين أبو زينة: في مثل هذه الأيام قبل 33 عاما، بدءا من 16 أيلول (سبتمبر) 1982 وعلى مدى ثلاثة أيام، نفذت مجموعات حزب الكتائب وجيش
لبنان الجنوبي والجيش
الإسرائيلي مجزرتها الدموية في مخيمي
صبرا وشاتيلا في لبنان.
وتراوحت تقديرات عدد ضحايا
المجزرة بين 700 و3500 قتيل، معظمهم من الفلسطينيين وبعضهم من اللبنانيين. والفرق في التقديرات غريب، لأن أحداً لم يتكلف عناء التحقق الدقيق من الأعداد بسبب استصغار شأن الضحايا كما يبدو. وحسب روايات الناجين من المذبحة، استخدم الجزارون الأسلحة البيضاء وكواتم الصوت لقتل العزل في المخيمين. وكان المعتصمون بمنازلهم المستباحة يعرفون أن شيئا ما يحدث في الخارج، لكنهم يجهلون ماهيته، بحيث ظلوا نهباً للتوقع المرعب حتى اقتحم الموت بيوتهم.
من المفارقات أن أيلول (سبتمبر) شهد أيضا هجمات نيويورك في العام 2001، والتي تقول أعلى التقديرات إن عدد ضحاياها وصل إلى 3000 شخص -أي أقل من أعلى تقديرات ضحايا صبرا وشاتيلا.
ولكن، شتان بين ردتي الفعل. ففي حين ذهب دم ضحايا صبرا وشاتيلا بلا مطالب، مثل من سبقهم ومن تلاهم من عشرات آلاف ضحايا المجازر من الفلسطينيين، قامت الدنيا ولم تقعد بسبب ضحايا نيويورك. وما نزال ندفع يوميا ثمن ذلك الهجوم بالدم والدمار والحروب والمزيد من الضحايا من معظم الشعوب العربية حتى هذه اللحظة.
في وصف أحد الناجين من مجزرة صبرا وشاتيلا لما حدث ليلة السادس عشر من أيلول (سبتمبر) 1982، قال:
"رأيت الجثث أمام الملجأ مربوطة بالحبال، لكني لم أفهم. عدت إلى البيت لأخبر عائلتي، لم يخطر في بالنا أنها مجزرة، فنحن لم نسمع إطلاق رصاص. أذكر أني رأيت كواتم صوت مرمية قرب الجثث هنا وهناك، ولكني لم أدرك سبب وجودها إلا بعد انتهاء المجزرة. كواتم الصوت "تتفندق" بعد وقت قصير من استخدامها، ولذلك يرمونها".
ينطوي استخدام كواتم الصوت في المخيمين على المجاز الذي لا يمكن أن يكون أقرب إلى الحقيقة مما هو في الحالة الفلسطينية -قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين لكتم صوتهم المطالب بالوطن والحق، مرة وللأبد. لكن الحالة الفلسطينية كشفت عن حيوية هائلة، والتي ينبغي أن تقنع العالَم بأن كل المجازر التي عانى منها هذا الشعب لم تخمد صوته أو تجبره على التخلي عن قضيته. ولذلك، لن يعني استهدافه بالرصاص العالي أو المكتوم إمكانية شطبه، كما تبين لكل ذي عينين بعد كل هذا الوقت.
في الوقت ذاته، يتحمل الأحياء من الشعب الفلسطيني مسؤولية عدم التنازل عن حق الذين قضوا في الصراع الطويل. وربما يجب أن يضع قادة الفلسطينيين على جدران مكاتبهم أسماء وتواريخ المجازر التي استهدفت مواطنيهم -وما أكثرها- حتى لا ينسوا ما هم بصدده. وفي الحقيقة، يستغرب المرء كيف يمكن أن لا تزود المجازر المتكررة بحق الفلسطينيين قادتهم بالحنق والعناد الضروريين للتمسك بالموقف أمام عدوٍّ لا يرحم.
لم يشفع للشيوخ والأطفال والنساء العزل في صبرا وشاتيلا رحيل المقاتلين عن بيروت إلى منافٍ بعيدة لغاية حقن الدم. كان رحيل البنادق بالتحديد هو السبب في انكشاف الضحايا المتروكين والمخذولين أمام القتلة. وما كان ينبغي أن يضيع الدرس المُرّ الذي قدمه قتلى المخيمين بدمهم: إن أي قضيَّة لا بد أن تكون خاسرة إذا خاضها المرء من موقع الضعف والعراء، وهي مسألة يدركها أي قائد حقيقي في صراع شرس محكوم بمنطق القوة.
كل ما يقال عن مجزرة صبرا وشاتيلا لا يمكن أن يصف هول الحدث بالنسبة للذين عايشوه وما يزالون يحملون ندوبه في القلب والذاكرة. أما نحن الذين راقبنا من بعيد، فقد اختبرنا جزءاً فقط من شعور الثكل والعجز في مقاطع محمود درويش الموجعة في وصف المجزرة:
"... رحل الرجالُ إلى الرحيلْ/ والحرب نامت ليلتين صغيرتين، وقدَّمَتْ بيروتُ طاعتها وصارتْ عاصمَهْ/ ليلٌ طويلٌ، يرصدُ الأحلامَ في صبرا، وصبرا- نائمهْ/ صبرا- بقايا الكفِّ في جسدٍ قتيل/ ودَّعتْ فرسانها وزمانها، واستسلمت للنوم من تعبٍ، ومن عَرَبٍ رَمَوْها خلفهم/ .../ صبرا- تُغَطِّي صدرها العاري بأغنية الوداعْ/ وتَعُدُّ كفَّيها وتخطئُ، حين لا تجد الذراعْ...".
(عن صحيفة الغد الأردنية، أيلول/ سبتمبر 2015)