كتب هيفاء زنكنة: لم يترك المتظاهرون العراقيون طريقا سلميا إلا وسلكوه، للمطالبة بالإصلاح ووضع حد لجرثومة الفساد التي التهمت الأخضر واليابس في البلاد. خرجوا بالآلاف إلى شوارع وساحات المدن ليواصلوا احتجاجاتهم التي استهلت، في 2003، وبعد تنصيب حكومة تمارس إهانة المواطن وسلبه كرامته لصالح المحتل الأمريكي والبريطاني بداية، وبمعية المحتل الإيراني لاحقا.
كان رد الحكومة "حزمة" وعود جوفاء وخطب لم تعد تقنع أحدا. وكلما ازداد إصرار المتظاهرين على مطالبهم، تمسك الساسة بكراسيهم، ورؤساء الأحزاب برطانتهم، وقادة المليشيات بوحشيتهم. في عراق، أرادوه بلا دولة وبلا مؤسسات، صارت الكلمة العليا لمليشيات ومرتزقة مشرعنة باسم حكومة شعارها "يا ثارات الحسين" من جهة ومنظمة إرهابية تريد بناء دولة "خلافة إسلامية" من جهة ثانية. كلاهما يتفنن بإرهاب المواطنين. وكلما برزت إلى الوجود أصوات تريد استعادة البلاد من السراق، لبناء ما يطمح إليه المواطن من تعليم وخدمات ومستقبل كريم، يهاجمها قطيع ضباع يستبسل دفاعا عن مصالحه ومصالح من يمثله.
منذ ثمانية أسابيع، والضباع تترصد بالمتظاهرين الذين تبنوا مطالب مظاهرة المدينة الأولى في البصرة بعد أن سقط فيها صريعا الشاب منتظر الحلفي في منتصف شهر تموز الماضي. جعلوا الوصول إلى اماكن التجمع شبه مستحيلة بحجة حماية المتظاهرين. هاجموا المعتصمين في المدن. اعتدوا عليهم بالضرب والسب والشتم بمدينة البصرة، مثلا، ثم حطموا خيم الاعتصام. اعتقلوا عددا من قادة التظاهرات، اختطفوا وعذبوا واغتالوا آخرين. اغتالوا اثنين من منظمي التظاهرات في البصرة وذي قار، جنوب العراق، هما مسلّم هيثم الركابي ووليد سعيد الطائي، برصاص مجهولين، فيما توفي الشيخ صباح الكرموشي، وهو من أبرز منظمي الاعتصامات في محافظة البصرة، متأثرا بجراحه جراء تفجير عبوة وضعت داخل سيارته.
وإذا كان العالم، المتأهب دوما للغزو بحجة التدخل "الإنساني"، قد صمت على الانتهاكات الصارخة بحق المتظاهرين في السنوات الماضية، بعد ان نجحت الحكومة بتسويق التظاهرات بأنها طائفية أرهابية تهدد أمن المنطقة والعالم، فإن الصمت لا يزال مدويا، يحيط التظاهرات الحالية، على الرغم من فشل الحكومة، في نعتها بالطائفية الإرهابية، كالسابق، خاصة بعد ان أبدت المرجعية الشيعية رضاها، مما اوقع الحكومة في مأزق لا ينقذها منه غير اتهام المرجعية نفسها بالطائفية الإرهابية!
بجانب صمت الدول والعديد من المنظمات الدولية، هناك الصمت الإعلامي الدولي الذي طالما سمعناه، مطبلا ومزمرا للدفاع عن حقوق الانسان، ومن عاش، مثلي، في الغرب، يتذكر جيدا انتقائية اجهزة الإعلام في تحشيد الرأي العام مع شن الحرب على العراق "لانقاذ العالم من أسلحة الدمار الشامل، وتطبيق حقوق الإنسان". أكثر أجهزة الإعلام صمتا، في بريطانيا، حاليا، هو ذاته الذي كان أكثرها صخبا وتغطية لانتهاكات حقوق الانسان قبل الغزو، أعني جهاز البي بي سي الإذاعي والتلفزيوني.
انتقائية الجهاز الإعلامي، الموصوف بالموضوعية، وبأنه المقياس الذي يتطلع اليه الكثيرون لمحاكاته، لا تفتأ تصدمنا، كما افعال البرابرة، على الرغم من توقعنا إياها. ففي الوقت الذي تهاجم فيه إذاعة البي بي سي الحكومة الصينية، في نشرت الأخبار، وعبر لقاءات مع ممثلي منظمات حقوق الإنسان، وأكاديميين و"خبراء" بالشأن الصيني، لاعتقالها، مثلا، كاتبا صينيا ومحاكمته واصدار الحكم عليه علنيا، بشكل يغرس في ذهن المواطن البريطاني صورة حكومة قمعية لا هم لها غير تحويل سكان الصين البالغ عددهم ما يزيد على المليار مواطن صيني إلى سجناء رأي يعذبون ليلا ونهارا، نراهم يتعامون تعاميا مطلقا ازاء جرائم النظام الذي نصبوه، الذي وصفه هانز فون سبونيك، نائب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة السابق بالعراق، بأنه "لم يبق بند من بنود حقوق الإنسان لم ينتهكه". هذا لا يعني أنني مع الحكومة الصينية في اعتقالها الكتاب أو نشطاء حقوق الانسان، بل بالعكس، ما نصبو إليه أن تكون التغطية الإعلامية متوازنة إزاء أي انتهاك ضد أي شعب كان.
هناك، طبعا، عدد من المنظمات الحقوقية الدولية، التي تحاول أداء عملها، بعيدا عن المصالح السياسية وتمثيل الجهات الداعمة ماديا (وهو بلاء شائع بين منظمات المجتمع المدني)، من بينها "مركز جنيف الدولي للعدالة" الذي أطلق نداءً، طالب فيه الأمم المتحدّة بالضغط على السلطات العراقية لإطلاق سراح الناشط جلال تركي الشحماني الذي اختطف مع شخصين آخرين في بغداد، يوم 23 /9/ 2015، من قبل مجموعة ترتدي ملابس الميليشيات اقتادته إلى جهة غير معلومة بعد ان قامت بإطلاق عيارات نارّية في الهواء لخلق حالة من الرعب في المنطقة. وسبقه اختطاف الناشط علي هاشم مع ضرغام محسن وعماد طه. ولم يرهب الاختطاف والتعذيب علي هاشم بل اصر على مواصلة التظاهر بعد اطلاق سراحه.
وعثر على جثة الناشط حيدر غازي الربيعي (35 عاما) ملفوفة بكيس ومربوطة بحبل بعد إطلاق النار عليه في محافظة ذي قار.
المعروف أنه نادرا ما يتم التحقيق في الجرائم المرتكبة ضد المواطنين، خاصة جرائم الاختطاف والاغتيال، وقلما يجد المواطن من يدافع عن حقوقه مع استشراء الفساد في الجهاز القضائي وبعد أن أنشأت الحكومة هيئة "الحشد الشعبي"، الذي بات أعلى سلطة وتحكما بحياة الناس من الجيش وبقية الأجهزة الأمنية على مساوئها جميعا.
عبر المنسق العام لمجلس حقوق الإنسان ضمن اعمال دورته الأخيرة عن قلقه من انتهاكات حقوق الإنسان وركز المتحدثون على إرهاب داعش، بينما اعتبر المتظاهرون فساد الحكومة مساويا للإرهاب، مما يجعل "قلق" المنسق درعا يحمي المجلس من المسؤولية الدولية، كما يجعل ذريعة التحالف الروسي الإيراني السوري مع الحكومة العراقية، لمحاربة داعش وتغطية عار الحكومة في تنفيذ الوعود، كارثة أخرى تساوي كارثة الاحتلال الأمريكي بحجة تحرير العراقيين.