الساحة السياسية الليبية تشهد تطورا على مستوى الحوار وتخطو ولو بتعثر باتجاه التوافق، واجتماع أطراف الحوار في "نيويورك" فيه إشارة إلى مسعى جدي وضاغط من الأطراف الدولية على الطرفين المحليين، للتوقيع على النسخة الأخيرة من مسودة الحوار والتقدم، خطوة باتجاه الاتفاق على اختيار رئيس الحكومة الجديدة ونائبيه.
وأشرنا في مقال سابق أن الاتفاق السياسي والتوصل لتشكيل حكومة توافق وطني ليس نهاية المطاف، وأن التحديات أمام هذه الحكومة كبيرة ومنتشرة في ربوع البلاد، وتتطلب جهودا جبارة لاحتوائها.
الميدان العسكري له قول غير التوافق واتجاه ربما ليس قريبا من الاتفاق، وهو ما تؤكده التطورات الأخيرة على الجبهتين: الملتهبة في الشرق، والمضطربة في الغرب.
بيان
أنصار الشريعة الأخير فيه ما يشير إلى صعوبات تعيق مساعي الحوار، تضاف إلى الموقف المتصلب لتنظيم الدولة "داعش" الذي يقوم مشروعه على قطيعة كاملة مع مضامين الحوار وأفكار التقارب.
وإذا كان البيان الأخير لتنظيم أنصار الشريعة لا يضيف جديدا إلى موقفه من الدولة المدنية والمسار الانتقالي، الذي يرسم ملامحه صندق الانتخاب والاستفتاء على الدستور المُحدد لشكل الدولة وصلاحيات مؤسساتها وأجهزتها وحقوق جماعاتها وأفرادها، إلا أنه يأتي في مرحلة حرجة بالنسبة للتكتل الذي يواجه خليفة
حفتر في
بنغازي، خاصة ما يتعلق بالدور الذي تؤديه مدينة مصراتة في دعم مجلس شورى ثوار بنغازي، وأقل ما يقال فيه هو غض الطرف عن النشاط اللوجستي للمجلس الذي يتخد من مصراتة قاعدة لتوفير السلاح والذخيرة ونقل الجرحى...إلخ.
مصراتة اليوم تنقسم حول فسح المجال لمجلس شورى بنغازي لاستخدام المدينة للتعبئة لعمليته العسكرية ضد حفتر، ويسهم غموض موقف المجلس من تنظيم الدولة الذي ناصب العداء لمصراتة وأعلن حربه عليها، في إثارة حفيظة قطاعات مؤثرة من حملة السلاح ومن الساسة والنشطاء المدنيين في المدينة.
بالمقابل، فإن أنصار خليفة حفتر يدفعون باتجاه ملء الفراغ السياسي والمؤسسي السيادي الذي يرتبط بانتهاء المهلة المحددة للبرلمان في آواخر الشهر الجاري، وذلك من خلال الإعلان عن المجلس العسكري الأعلى بقيادة خليفة حفتر، الذي من المفترض أن يتمتع بالسلطات التشريعية والتنفيذية كافة، ربما من خلال اتفاق البرلمان أو جمهرة من أعضائه على الإقرار بانتهاء مدته وتسليم السلطة لحفتر.
خطاب وتحركات طرفي الصراع في بنغازي لا روح أو نفس للتقارب أو التفاهم فيه، وتحدث مراقبون محليون عن أن إطلاق عملية "
حتف"، والتعبئة العسكرية والكثافة النارية للطيران الحربي التابع لعملية الكرامة إنما لإحراز تقدم في بنغازي تمهيدا لاتخاذها مقرا للمجلس العسكري الأعلى، على أن تعلن المناطق التي لا تبارك المجلس العسكري مناطق خارج سيطرة "السلطة" وتسعى الأخيرة لتحريرها.
ويظهر المشهد تغريد طرفي النزاع المسلح في بنغازي بعيدا عن الحوار السياسي، بالمقابل فإن الحوار لم يتطرق إلى الأزمة في المدينة بشكل واضح، وترك معالجتها لحكومة التوافق الوطني، ولهذا إسقاطه السلبي على واقع الأزمة في بنغازي من ناحية تأخير المعالجة وفسح المجال لمزيد من التأزيم والتعقيد الذي يصعب معه تمرير أي حل في المستقبل.
خطاب أنصار الشريعة وتنظيم الدولة لا يلقى تأييدا، لكن ابتعادهم عن إجماع المعسكر المواجه لحفتر يعني أن مجلس شورى الثوار لا مستقبل له في المساهمة في استقرار المدينة، بالمقابل فإن حفتر يفتقد إلى الإجماع الذي تمتع به مع إطلاق عملية الكرامة في شهر مايو من العام المنصرم، ويعارض تشكيل المجلس العسكري الأعلى ساسة نافذون وقادة عسكريون ذوو نفوذ في بنغازي، هذا علاوة على ما يظهر من تحفظ بل ورفض دولي لمقاربة حفتر، الذي ربما يعتمد في اتجاهه الجديد إقليميا على مصر ومحليا على قطاع من الرأي العام، تراجع نسبيا زخم دعمه لحفتر بسبب فشله في القضاء على "الإرهابيين" كما وعد، وفرض الاستقرار في بنغازي التي انزلقت في مستنقع ليس من اليسير الخروج منه.
لكن الأكيد أن كلا الطرفين لا يقرأ التحديات التي يجب أن تواجه بمنطق التوافق، ويصر على الدفع باتجاه مزيد من الاحتراب.