لأن شبح المقارنة بين الماضي والحاضر دائماً ما يطارد الإنسان ويؤثر على تفكيره مما يجعله يرسم صورة لمستقبله القريب وأحياناً البعيد والبعيد جداً أيضاً، ولأنه وكما كان يقول لي عجائز قريتي يوما "من فات قديمه تاه".
لأجل هذا وغيره أكتب اليوم ونحن على أعتاب عام دراسي جديد كطالب دخل إلى الجامعة في عصر المخلوع مبارك وعاش فيها فترة المجلس العسكري مرورا بحلم كان اسمه أول رئيس مدني منتخب ليصل به الحال ليتخرج وهو في أحضان انقلاب عسكري دموي فاشي، أعاده إلى فترة كانت هي أسوأ من مراحل الفترة التي دخل فيها إلى الجامعة وكان يحسب أنه لا فساد ولا ظلم ولا ديكتاتورية أسوأ من الموجودة آنذاك.
دخلت إلى الجامعة في عصر مبارك فوجدت حياة ولا حياة، طالب لا يسمح له بأي شيء سوى الذهاب والعودة إلى قاعة محاضرات وإن لم يأته الأستاذ، لا نشاطات طلابية أو اجتماعية أو سياسية أو حتى رياضية بل قل إن شئت أنه لم يكن ثمة نشاط ديني دائم في جامعة كجامعة الأزهر، هذا كله باستثناء بعض الأنشطة التي رضي عنها الأمن وباركتها إدارة الجامعة متمثلة في رئيسها.
أول ما سمعته حين دخلت الجامعة كان خبر استبعاد ما يزيد عن المائة وخمسين طالباً من ذوي التقديرات العالية "جيد جداً وامتياز" من السكن في المدنية الجامعية بسبب محاولة تمردهم على كلابشات الداخلية التي كانت تقيد الجامعة كل الجامعة بما فيها من طلاب وأساتذة وعمداء وموظفين وعمال بل والجدران والمباني والأرضيات.
ثمة مخبر يسعى في كل مكان وزمان في هذه الفترة، تشعر بالحصار وأنت هناك، بل قل إن شئت هو السجن ولا شيء غير ذلك.
لكن كل هذا بددته ثورة قام بها جموع المكبوتين بالممارسات الأمنية والمفصولين والمستبعدين بفعل مجالس التأديب والمغضوب عليهم من الإدارات القمعية المتتالية لفروع الداخلية والتي كانوا يسمونها حينها زورا وبهتاناً "جامعات".
ثورة بدلت الحال من كبت لحرية، ومن ظلم لعدل، ومن خوف لأمن، ومن تعيين لانتخاب، ومن فساد لإصلاح، ورأينا للمرة الأولى اتحاد طلاب وأسر طلابية وانتخاب عمداء للكليات لينتخبوا بعد ذلك رؤساء للجامعات وما أجمل السُقيا بعد ظمأ.. نعم لقد شربنا حد النهم من كل ما حرمنا المخلوع ورجاله منه.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فانتشرت ثقافة الانتخابات لتصل إلى مراحل عليا، مرحلة انتخاب رئيس للجمهورية، وصل الأمر ذروته ليلتقي الرئيس المنتخب للمرة الأولى منذ عقود باتحاد طلاب مصر المنتخب، وما أجمل لقاء منتخب بمنتخب وخاصة إن كان لجمهور قوامه ما يقارب الثلاثين مليون شخص خرجوا إلى الشوارع والأزقة ليشجع كل منهم من انتخب.
ما أجمل هذا الحلم الذي مر بسرعة البرق الخاطف ليتبدل الحال بأسوأ مما كان عليه في عهد مبارك بفعل انقلاب الثالث من يوليو الذي فعله العسكر وأيدتهم في ذلك نخبة أقل ما يقال عنها أنها خائنة يتقدمها ذو عمة وصاحب صليب.
عشرات الطلاب المستبعدين من السكن في المدينة الجامعية تحولوا بفعل هذا الانقلاب إلى الآلاف، ووصل الأمر إلى غلق المدينة الجامعية بالكلية، وأصبح القتل داخل حرم الجامعة كما الهواء يتنفسه الطلاب ليسقط منهم في عام واحد عشرات الشهداء ومئات المصابين وآلاف السجناء، فضلاً عن المفصولين فصلاً نهائياً من التعليم مع ما كان لهم من سبق التفوق والاجتهاد، وبالتبعية عاد الأمر إلى ما كان عليه بل أسوأ .. فلا انتخاب ولا حرية ولا ديمقراطية لتتحول الجامعة إلى معسكر يجمع العسكري المدجج بالسلاح إلى جانب الطالب مسلوب الإرادة والمجرد من كل حقوقه.
هكذا كنا في عهد مبارك .. وإلى ذاك الحال وصلنا في عهد مرسي .. واليوم صرنا كما القائل:
الأرضُ سوفَ تشيخُ قبلَ أوانها ... الموتُ سوفَ يكونُ فينا أنهُرا
وسيعبرُ الطوفانُ من أوطاننا ... من يُقنعُ الطوفانَ أن لا يعبُرا؟!
وسيسقطُ المعنى على أنقاضنا ...حتى الأمامُ سيستديرُ إلى الورا
سبعٌ عجافٌ فاضبطوا أنفاسَكم ... من بعدها التاريخُ يرجعُ أخضرا