نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية تقريرا للكاتب مارفين كلب، قال فيه إن الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين حوّل بتدخله العسكري في
سوريا الكرملين مرة واحدة إلى مركز الدبلوماسية للشرق الأوسط، والرسالة كانت واضحة، وهي أن
روسيا عادت قوة كبرى، وأن الحل لهذه الحرب المدمرة يمر عبر موسكو.
ويذكر التقرير أنه بعد حوالي شهر من دك معاقل الثوار المناوئين لنظام بشار الأسد، قام بوتين بدعوة الأسد إلى الكرملين، متسببا بتخمينات جديدة حول وجود صيغة حل من صناعة روسية للحرب في سوريا. ودهشت الولايات المتحدة، وبعد اجتماع واحد بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف، وافق كيري على دعوة حليف روسيا، إيران، لحضور جولة المفاوضات الجديدة بخصوص سوريا، التي حصلت في 30 تشرين الأول/ أكتوبر في فيينا.
ويتساءل الكاتب هل بإمكان بوتين النجاح حيث فشل الآخرون؟ ويرى أن ذلك ممكن، ولكنه غير متوقع، فقد فتح الرئيس عش دبابير في سوريا، والكل، بمن فيهم بوتين، يلدغ مرة تلو الأخرى.
وتجد المجلة أنه لدى تفحص مقامرة بوتين عن كثب، تكتشف أن ما ظهر وكأنه ورقة رابحة في البداية، هو في الواقع ورقة خاسرة بامتياز ولأسباب خاصة بروسيا، وهي تتعلق بحقيقة عادة ما تهمل بالرغم من أهميتها، وهي أن أكثر من 20 مليونا من عدد سكان روسيا الـ 144 مليونا هم من المسلمين السنة، وهم بالطبع يتعاطفون مع المسلمين السنة، الذين تقصفهم روسيا في سوريا. فأي حسابات خاطئة في سوريا قد تقوض قاعدة السلطة لبوتين في بلده.
ويبين التقرير أن الأمر لا يتوقف هنا، فلم يتوقف بوتين عند قصف الثوار السنة في سوريا، بل قام بإنشاء تحالف تقوده روسيا من القوى الشيعية في المنطقة إيران والعراق وسوريا، لتبادل المعلومات الاستخباراتية، ولضرب العدو السني معا. موضحا أن بوتين بهذا، وسواء كان مقصودا أم لا، يكون قد فتح حربا ضد العرب السنة، الذين تقودهم السعودية المتحالفة مع أمريكا.
ويلفت الكاتب إلى أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان قد كرر مرارا أنه لا يريد حربا بالوكالة مع روسيا، ولكن هذا بالضبط ما بدأ يتبدى، فهذه المنطقة، التي تعاني من مرض الحروب المزمن والكراهية والانقسامات الدينية، أصبحت الآن أكثر اضطرابا، ويزيد ذلك تبلور حلفين روسي شيعي وأمريكي يدعمه السنة.
وتقول المجلة إنه بالنسبة لبوتين، فإن هناك تحدي وجود، وأن المعضلة تكمن في الديمغرافيا الروسية والتاريخ. مشيرة إلى أن معظم المسلمين الروس السنة يعيشون في شمال القوقاز، حيث كان العديد من الاضطرابات الإسلامية ضد الروس. فالشيشان شهدت منذ فترة ليست بعيدة حربين طاحنتين. وجارتها داغستان أيضا عبارة عن برميل بارود، كونها جزءا من الخلافة القوقازية التي يدعيها الجهاديون. ويلقي الشيوخ هناك خطبا تعد متعاطفة مع أهداف
تنظيم الدولة، وقد استجاب حوالي 2400 مسلم روسي للدعوة، وهذا تطور يخيف بوتين كثيرا.
ويورد التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، ما قاله الرئيس الروسي من فترة قريبة على محطة "سي بي إس": "أهم سبب جعل روسيا تدخل سوريا هو التهديد بأن يعودوا إلينا". لافتا إلى أن الكابوس الذي يعاني منه بوتين هو عندما يتدرب هؤلاء المسلمون على تكتيكات
الإرهاب الحديث، ويعودون إلى روسيا لتفجير الطائرات والقطارات والمسارج والمدارس، كما كانوا يفعلون سابقا. ويضيف بوتين: "من الأفضل لنا أن نساعد الأسد في حربه على الأرض السورية".
وينوه الكاتب إلى أن الخوف من الإرهاب الإسلامي يتغلغل في التاريخ الروسي. وفي القرن التاسع عشر كتب تولستوي وغيره من الكتاب الروس قصصا حول الجيش الروسي الذي يحارب المجاهدين الإسلاميين من شمال القوقاز. وكان هذا هو الموضوع المشترك لكثير من الكتب، الضابط السلافي يحارب المارق الإسلامي. الأول يقاتل لحماية المدنية المسيحية، والآخر يقاتل لاجتثاثها.
وتجد المجلة أنه من الطريف أن يتم ترديد صدى الموضوع ذاته اليوم على التلفزيون الروسي، فمثلا شرح المذيع التلفزيوني الشهير ديمتري كيسيليوف، الذي يعجب بوتين أسلوبه الناري، سبب القتال الروسي في سوريا في برنامجة الأسبوعي، فقال: "إن روسيا تنقذ أوروبا من البربرية للمرة الرابعة". ثم سأل: أنقذنا أوروبا للمرة الرابعة؟ وأجاب: "دعونا نعد.. المغول، نابليون، هتلر واليوم الدولة الإسلامية".
ويشير التقرير إلى أن علاقات الكرملين كانت سيئة مع المسلمين عدة مرات في القرن الماضي، فخلال الحرب العالمية الثانية تم نفي مسلمي القرم إلى سيبيريا؛ لأنه لا يمكن الثقة بهم ليحاربوا ضد النازيين. وبعد أن تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 رجا الرئيس الروسي بوريس يلتسين أوكرانيا أن تبقى في الاتحاد؛ بحجة أنه "لا يمكن لنا أن نكون في وضع حيث تقف روسيا وبلاروسيا كونهما صوتين سلافيين ضد خمسة أصوات لدول إسلامية".
ويفيد الكاتب بأن كثيرا من الروسيين يتذكرون باسماتشي وسط آسيا، وهم قبيلة مقاتلة تشبه تنظيم الدولة، وشكلت خلافة في عشرينيات القرن الماضي، وثاروا ضد الهيمنة الروسية. وقام الجيش الروسي بذبحهم دون رحمة، بعد عقد من الزمان، ولكن رسالتهم الإسلامية بدأت تحرك كثيرا من الشباب المسلم العاطل عن العمل في وسط آسيا، ما يشكل خطرا مباشرا على روسيا.
وتعتقد المجلة أن بوتين قلق من هذا الأمر، حيث أقام قبل شهر مناورات عسكرية لـ 100 ألف جندي في وسط آسيا. وحذر من أن هناك ما يقدر بحوالي سبعة آلاف مسلم من شمال القوقاز ووسط آسيا يقاتلون مع تنظيم الدولة، وقد يأتون بالإرهاب إلى مناطقهم عن طريق أفغانستان، وقد يأتون عن طريق سوريا والعراق.
ويوضح التقرير أن أشباح الإرهاب الإسلامي تطارد بوتين، مثل ما طاردت غيره ممن سبقوه، ويرى في هذا الإرهاب تهديدا لاستقرار روسيا كدولة، وفي نظره فإنه تجب محاربته والقضاء عليه، سواء كان في روسيا أو في سوريا. ويؤكد الكاتب أن التاريخ سيثبت أنه سيقصر هنا وهناك، وسيعاني من تبعات سياسية ودبلوماسية.
ويقول الكاتب إن لا أحد يستطيع إخفاء الحقيقة بأن روسيا في حلف شبه مقدس مع الشيعة في إيران والعراق وسوريا لمحاربة السنة في سوريا، وتعرض هذه الهجمات على التلفزيون الروسي مرارا. ويقوم الصحافيون الموالون للكرملين، الذين غطوا أحداث أوكرانيا، بتغطية أحداث سوريا، المراسلون أنغسهم ورسالة الانتصار ذاتها، التي ترفع من مستوى الفخر بين الروس، وترفع من مستوى القلق والألم بين المسلمين السنة هناك.
ويضيف أن "المسلمين السنة في روسيا يقلقهم ويحيرهم ما يرونه ويسمعونه. وحتى لو لم تدخل روسيا في الحرب السورية فإن ثورة على شاكلة ما حدث في
الشيشان كانت تهديدا يلوح في الأفق، والآن فإن ثورة يقوم بها المسلمون الغاضبون أصبحت أمرا أقرب إلى الواقع، وفي الواقع قد تكون مجرد مسألة وقت".
وتخلص "فورين بوليسي" إلى أن مقامرة بوتين في سوريا فيها مخاطرة كبيرة، مشيرة إلى أنه قد يكون تسبب في تنفير المسلمين الروس، وحرض على العنف الذي كان يقاتل ضده.