لا جدال بأن العالم العربي الإسلامي يتوافر على فائض من
العنف السياسي يتفوق على مظاهر العنف السائد في مناطق حضارية أخرى، فقد باتت الجهادية العربية بشقيها "الدولة الإسلامية" و"قاعدة الجهاد" أحد الفاعلين الصاعدين في رسم معالم ومستقبل الدولة الوطنية، لكن ذلك العنف لا يستند إلى منابع دينية نصيّة وتأويلات كلاميّة فقهيّة متطرفة، بل إن العنف ظاهرة إنسانية تستند إلى أسباب وشروط وظروف موضوعية تستخدم النص كإطار إيديولوجي ثوري للتمرد على "العنف البنيوي" الكامن في صلب الدولة الدكتاتورية الوطنية والنظام الإمبريالي الكولينيالي المعولم.
لكن الأنظمة الدكتاتورية وسيدتها الإمبريالية لا ترغب في تبيّن منابع العنف الحقيقية لأسباب عملية تتعلق بإدانتها والكشف عن دورها المولد للعنف والتطرف، ويبدو أن المقاربات التفسيرية الدكتاتورية والإمبريالية لاكتناه سر جاذبية الإيديولوجية الجهادية تنحو باتجاه المنظور الاستشراقي والثقافوي ومقاربته التفسيرية التي تختزل الظاهرة الجهادية المعاصرة بطبيعة الديانة الإسلامية ونصوصها التأسيسية، وهي مقاربة متلبسة بديمومة الهيمنة السياسية الغربية والمنظور الإمبراطوري الإمبريالي المتحالف مع الوطنيات الدكتاتورية التسلطية.
وإذا كانت المنظورات الإمبريالية الثقافية الاستشراقية تقصر العنف بطبيعة الديانة الإسلامية ونصوصها التأسيسية من القران الكريم والسنة النبوية دون مواربة، فإن المقاربة الدكتاتورية التسلطية تتماهى مع القراءة السابقة مع إجراء تعديل طفيف من خلال ربط الظاهرة بالقراءة الأصولية للنصوص التأسيسية مع خلافات شكلية حول مسؤولية ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أو سيد قطب، وصولا إلى منظري الجهادية المعاصرة.
سدنة المنظور الإصلاحي الثقافوي الإمبريالي يصرون على ضرورة التخلي عن النصوص المؤسسة للإسلام والدخول في زمن الحداثة للتخلص من فائض العنف على الرغم من إدراكهم بأن الحداثة أنتجت أقبح أشكال التسلط والعنف بصيغته الكولينيالية الاستعمارية الفجة وإيديولوجياته الشمولية العنيفة كالنازية والفاشية والشيوعية، وأما دعاة المقاربة الثقافوية الدكتاتورية العربية فهم يعتقدون بأن المناهج التعليمية الدينية بصيغتها التيمية أو الوهابية أو القطبية أنتجت عنفا مضاعفا، لكنهم لا يدركون كنظرائهم الإمبرياليين أن لا فرق على صعيد التشكيلات الكلامية الفقهية بين سلفية ابن تيمية وعبد الوهاب وقطب، وبين برهانية ابن رشد وعرفانية الغزالي وابن عربي، ومقاصدية الشاطبية في تبيّن بنيّة الدولة وظيفة الجهاد ومبحث السير والتعرف على مفهوم دار الإسلام ودار الحرب.
بيد أن القراءة التكاملية تدحض القراءات التجزيئية لمنابع العنف، فهي تشير إلى جملة من الأسباب والعلل الموضوعية، ولا تشكل النصوص الدينية الإسلامية الأساسية وتأويلاتها الأصولية سوى أحد العوامل الفاعلة في نشأة وتكوين الإيديولوجية الجهادية التي تستند إلى أسباب وشروط وظروف موضوعية ترتبط بالمسألة السياسية والحالة الاقتصادية والمواضعات الاجتماعية، وطبيعة التحولات العالمية والإقليمية.
لا شك بأن المقاربة الاستشراقية والثقافوية حول مسلمة "
الإرهاب الإسلامي"، تتسم بالشيوع والانتشار لدى الغرب، وهي مقاربة تتمتع للأسف الشديد بحضور كثيف لدى الخبراء والباحثين والسياسيين في الغرب، ولا تعدم لها أتباعا من المثقفين العرب، فأنصار حديث الاستشراق والثقافة مجمعون على أن الدين هو الذي يقود الثقافة والسياسة في العالم العربي، ومتفقون على أن دوافع العنف الإسلامي نابعة من أصولية دينية إسلامية متطرفة, ورغم مجانبة هذا التحليل للصواب، فضلا عن دوافعه الاستراتيجية الإمبريالية العالمية بقصد الهيمنة والسيطرة والتحكم, فإن الدكتاتورية المحلية تتماهى مع خطاباته طمعا بديمومة الثروة والسلطة.
إن التحليل المعمق للظاهرة الإسلامية عموما والإسلام السياسي والجهادي خصوصا، عبر قراءة موضوعية تفهمية تتجاوز نمط القراءات الأحادية المتطرفة المتلبسة بالتبسيط والاختزال والانفعال والإدانة، يشير بلا ريب إلى صلة العنف بمواضعات سياسية وظروف اقتصادية وأحوال اجتماعية، فقد دعمت الأنظمة الغربية لعقود طويلة النظم الاستبدادية العربية تفضيلا للاستقرار على الديمقراطية بذريعة كونها ستجلب معها سلطوية دينية وأصولية عدمية، وفق قراءة أحادية ترى في الإسلام كيانا جوهرانيا معاديا بطبيعته للحداثة والديمقراطية ومسكون بالعنف والاستبداد، وتعاملت مع تنوعات الحركات الإسلامية الدعوية والسياسية والجهادية باعتبارها اختلافات كمية لا نوعية، لكن القراءة الغربية للظاهرة الإسلامية ليست حيادية، فهي تكشف عن عمق الرؤية السياسية النفعية وهشاشة المقاربة المعرفية التفهمية.
إن البرهنة على عقم التصورات الأحادية المختزلة للظاهرة الجهادية وتقديم قراءة تفهمية تعددية أفضل وأشمل، تأتي من خلال تتبع مسارات نشأة وتكوين وتطور الإيديولوجية الجهادية العالمية، والتأكيد على تلبسها بنزعة دنيوية عبر الكشف عن سلسلة من المراحل التاريخية والظروف السياسية والتحولات الاجتماعية، فالأصول المؤسسة للجهادية العالمية الحديثة والمعاصرة رغم استنادها واستمدادها لمقولاتها من التراث الإسلامي، إلا أنها ظاهرة حديثة تبلورت وفق منظور تأويلي كاستراتيجية مقاومة لعمليات نزع الهوية، فقد ولدت الإيديولوجية الجهادية من رحم الاستعمار الكولينيالي، الذي خضع له العالم العربي والإسلامي نهاية القرن الثامن عشر، وأسفر عن تفكيك الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924، إذ برزت الإيديولوجية الجهادية النضالية لمواجهة الاحتلال الغربي وحماية الهوية الإسلامية المهددة بالزوال والأفول.
وقد أخذت الإيديولوجية الجهادية طابعا محليا في سياق الأنطمة ما بعد الكولينالية، فقد فشلت البنية الدكتاتورية السلطوية للدولة العربية بصيغها الإيديولوجية الوطنية الليبرالية والاشتراكية المشوهة، في تلبية طموحات شعوبها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فقد تحولت الأنظمة السياسية إلى نمط من الدكتاتورية الرثة، حيث أخفقت في تحقيق التحديث والاستقلال، وإرساء قواعد المواطنة والحكم الرشيد، ونجم عن سوء الحوكمة شعور راسخ بالاستياء والظلم، وغذّى هذا الشعور القمع والعنف المنهجي الذي تعرّض إليه المواطنون العرب على أيدي حكوماتهم على مدى عقود باعتبارهم خطراً على الأمن الوطني، في الوقت الذي فشلت فيه الدكتاتورية العربية عن مواجهة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لفلسطين، الأمر الذي أدى إلى نزوع حركات إسلامية سياسية معتدلة تعرضت للقمع والاضطهاد والمحاصرة والاستئصال للجنوح نحو الراديكالية والتطرف العنيف، أفضت إلى ولادة إيديولوجية جهادية تستند إلى أولوية مواجهة وقتال "العدو القريب".
عقب فشل الجهادية العربيّة في مواجهة عدوها القريب، دخلت في طور بناء منظومة إيديولوجية جهادية تستند إلى مفهوم "الجهاد التضامني"، مع تنامي سوق الفتاوى الدينية الرامية لإسناد شبكات الجهاد التضامني للدفاع عن الأمة الإسلامية الممتهنة في أفغانستان 1979 وغيرها من الساحات الإسلامية، حيث اعتبرت مسألة الدفاع عن البلدان الإسلامية التي تتعرض لعدوان خارجي فريضة شرعية واجبة، الأمر الذي استثمرته أمريكا مع حلفائها العرب إبان ذروة الحرب الباردة بين قطبي الصراع العالمي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وبهذا برز تحالف موضوعي وواقعي بين الولايات المتحدة وحلفائها من الأنظمة العربية مع أنصار الجهادية التضامنيّة، لتقويض أركان المنظومة الاشتراكية، ولم تكن الجهادية العربية تتوافر آنذاك على رؤية معادية للولايات المتحدة، ولا تحمل أجندة جهادية عالمية.
دخلت الجهادية طور العالمية كردّ فعل على ديناميكية العولمة عقب التحولات البنيوية في الحقل الاستراتيجي الدولي بين عامي 1989 و1992 بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، ونشوب حرب الخليج الثانية والحملة الأمريكية الفاشلة في الصومال ، فقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية إلى بروز الولايات المتحدة كقوة إمبراطورية إمبريالية مهيمنة تسعى للسيطرة التوسع وفرض نظام عالمي جديد، حيث عملت الجهادية العربيّة على تأسس قاعدة الجهاد كمنظومة جهادية متحدة تسعى إلى رفع الهيمنة الغربية عن المنطقة العربية والإسلامية، من خلال بناء إيديولوجية خطابية مناهضة للعولمة وتبني استراتيجية قتالية تقوم على النكاية ودفع صائل العولمة العسكرية الأمريكية، التي عملت على دعم وإسناد الأنظمة السلطوية في المنطقة، وفق مفهوم أولوية قتال "العدو البعيد"، والتي توجت بأحداث 11 سبتمبر 2001.
الإيديولوجية الجهادية دخلت طورا جديدا مع الإمبريالية الأمريكية الجديدة عقب احتلال العراق 2003، حيث تبنت الجهادية العربيّة استراتيجية تقوم على دمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والعالمية، فقد ساهمت السياسات الإمبريالية الأمريكية التي تحالفت مع الدكتاتورية العراقية المحلية الجديدة، على تجسير الفجوة بين أنصار جهاد العدو البعيد وأتباع جهاد العدو القريب، ويشير مصطلح "اندماج الأبعاد" إلى خليط مركب من العولمة والمحلية، وقد وضع في الأصل خلال عقد الثمانينات لشرح وتفسير آليات تكيّف الماركات العالمية مع ظروف السوق المحلية، وبدأ استخدامه مؤخرا في مجال دراسة "الإرهاب الدولي".
عقب انتفاضات "الربيع العربي" نهاية عام 2010 ومقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بداية 2011، كان تنظيم القاعدة في أضعف أوقاته، حيث أجبر على الدخول في تكيّفات إيديولوجية من خلال بناء شبكات شعبوية محلية تحت مسمى "أنصار الشريعة" تمهد لبناء منظومة إقليمية متحدة تتبنى آلية سلمية محلية تناهض الهيمنة الغربية من جهة، وتمارس ضغوطات على الحركات الإسلامية الإصلاحية التي بلغت السلطة عبر انتخابات ديمقراطية ودفعها لتطبيق "الشريعة"، لكن سرعان ما تم قطع مسارات التحول الديمقراطي من خلال الانقلابات وعسكرة الثورات، وسقط العالم العربي مرة أخرى في حقبة من العنف البنيوي للسلطة، وأعيد إنتاج الدكتاتورية بصورة عسكرية أكثر فاشية، هيمنت على المنظومة التشريعية والقضائية فضلا عن الإعلامية، وعملت على توسيع المدارك "الإرهابوية" بتصنيف الحركات الإسلامية المعتدلة كمنظمات إرهابية، حيث تم قمعها بوحشية ومحاصرتها وملاحقة أتباعها، الأمر الذي أدى إلى انبعاث جهادية عربية لم تعد تقنع بالانتقام والنكاية وباتت تنشد السيطرة والتمكين، وأصبحت المنافسة حادة داخل الجهادية العالمية، أفضت إلى بروز تصورات إيديولوجية متطرفة سرعان ما قادت إلى انشطار الجهادية العربيّة بين
تنظيم الدولة الإسلامية وقاعدة الجهاد.
منابع العنف الإسلامي كما هي منابع العنف الإنساني لا تخرج عن الأسباب والشروط والظروف الموضوعية، والبحث عن منابع للعنف في العالم العربي داخل المدونة الكلامية الفقهية الإسلامية يشير إلى استقالة العقل والهروب إلى جنان متخيلة، ذلك أن المنطقة العربية متخمة بالعنف البنيوي، فقد تعرض عبر تاريخه المعاصر لعنف كولنيالي وإمبريالي خارجي لا نظير له، كما تعرض لعنف دكتاتورية تسلطي داخلي مفرط، والخروج من حالة العنف يتطلب اتخاذ جملة من الإجراءات بعيدة المدى تتجاوز المقاربة العسكرية والأمنية الآنيّة، وتستهدف معالجة جذرية للأسباب والشروط والظروف الموضوعية العميقة التي أدت إلى ازدهار الظاهرة العنفية ونموها وانتشارها، وذلك عبر تقديم نموذج ناجح للحكم الرشيد يتوافر على تجديد الثقة بإمكانية التغيير والإصلاح، وترسيخ قيم سياسية تستند إلى مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية والتعددية.