أثارت حادثة
احتجاز الحرس الثوري الإيراني زورقين للبحرية الأمريكية واعتقال طاقميهما، ثم الإفراج عنهما لاحقا، جدلا واسعا في الولايات المتحدة التي يسعى فيها البيت الأبيض لتوثيق علاقاته مع طهران عبر الاتفاق النووي الذي توصل إليه وزير الخارجية جون كيري ونظرائه في مجموعة (5+1) العام الماضي.
كلا الطرفين، المؤيد لمساعي البيت الأبيض، والمعارض لها، رأى الحادثة من زاوية مختلفة، ورأى فيها ما يعزز وجهة نظره.
الخبير في الشؤون الدولية والمدير الإداري في معهد واشنطن مايكل سينغ ناقش الحادثة وتداعياتها على الاتفاق النووي في تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال".
يقارن سينغ في تقريره بين الحادثة الحالية التي أطلق فيها الإيرانيون بسرعة سراح
البحارة الأمريكيين، وبين حادثة أخرى لبحارة بريطانيين.
يقول سينغ إنه لا بد من الإشارة إلى أن السرعة التي أُفرج بها عن الأمريكيين -بعد أقل من 24 ساعة على إلقاء القبض عليهم- كانت موضع ترحيب. فهي تتناقض بشكل حاد مع الأحداث التي وقعت في العامين 2004 و2007، حيث تم أسر أفراد من "البحرية الملكية البريطانية" لمدة ثلاثة أيام في العام الأول و13 يوما في الثاني، وقد كَشف لاحقا أحد البحارة البريطانيين الذين وقعوا في الأسر في عام 2004 أنه كان يتعرض لعمليات إعدام وهمية.
وحتى الآن، يبدو أن إدارة الرئيس أوباما لا تكتفي باعتبار الإفراج عن البحارة خبرا سارّا، بل تعتبره كذلك بمثابة تبرئة. فقد قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في تصريح له إن هذه الحادثة أثبتت قيمة انخراط الإدارة الأمريكية مع إيران. لكن هذا الأمر ليس بديهيا. ففي العامين 2004 و2007، كانت تجمع بريطانيا روابط أوثق مع إيران، شملت علاقات دبلوماسية رسمية وسفارة لها في طهران. ومع ذلك، واجهت بريطانيا صعوبات أكبر في تحقيق عودة أفراد طاقمها البحري. ولم تضمن القنوات الدبلوماسية بين وزير الخارجية جون كيري ووزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الإفراج عن أمريكيين آخرين تحتجزهم إيران. وفق التقرير.
يعتقد سينغ أن إدارة الرئيس أوباما تريد الاستفادة من الحادثة؛ لتؤكد الفكرة الكامنة وراء مقاربتها للدبلوماسية النووية، ألا وهي أن إبرام اتفاق مع إيران سيؤدي إلى قيام علاقات ثنائية أكثر دفئا.
في المقابل، يسود الظن بأن الوزير ظريف لا يتمتع بنفوذ كبير على «الحرس الثوري» الإيراني، فهذا الأخير يعدّ أكثر معاداة لأمريكا من الرئيس الإيراني حسن روحاني ومناصريه، ومساره أكثر انسجاما مع المتشددين المنخرطين في صراع مرير على السلطة ضد روحاني قبيل الانتخابات البرلمانية الإيرانية المزمع إجراؤها في شباط/ فبراير. وغالبا ما يقدَّم هذا التحزّب داخل النظام الإيراني كتفسير عن عجز المحاورين الأمريكيين عن ضمان تحرير إخوانهم المحتجزين؛ فالمعتقلون يمثلون فعليا أوراقا يلعبها المتشددون ضد الولايات المتحدة وضد خصومهم المحليين على حدّ سواء. لذلك إذا لعب الوزير ظريف أي دور في قرار «الحرس الثوري» بالإفراج عن البحارة الأمريكيين، فإن ذلك سيكون مفاجأة.
ويعتقد سينغ أنه لا يزال من السابق لأوانه استخلاص أي استنتاجات حول أَسْر عشرة أفراد من البحرية الأمريكية على يد «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني وتحريرهم فيما بعد. ولكن من الواضح أن الحادثة ستلعب دورا مهما في كيفية صياغة مؤيدي الاتفاق النووي ومنتقديه لحجتهم في الأشهر المقبلة.
في الواقع -كما يقول التقرير- فإنه لم يتم الإفراج عن البحارة على الفور، إنما احتجزوا حتى اليوم التالي، وخضعوا للاستجواب، وتم تصويرهم لدواع إعلامية. وقد أظهرت الصور وأشرطة الفيديو البحارة وهم جاثمون على الأرض وأيديهم متشابكة فوق رؤوسهم. كما أفادت بعض التقارير أن التلفزيون الإيراني عرض شريطا مصوّرا يتم فيه استجواب البحارة، وتوجُّه أحدهم بالاعتذار ضمن إطار التبادل، علما بأن نشر الصور الدعائية للسجناء ينتهك "اتفاقية جنيف". وسيُعتبر كل ذلك بمثابة استفزاز هدفه إحراج الولايات المتحدة، وتناقُض مع التردد الذي تبديه واشنطن مؤخرا في تشويش العلاقات مع طهران.
ويطرح التقرير أسئلة حول تفاصيل الحادثة: كيف وقع هذان الزورقان وطاقماهما تحديدا في يد الإيرانيين، وهل وقعت الحادثة الأولية في المياه التي تعدّ أراضي إيرانية من الناحية الدولية؟ كيف كانت معاملة البحارة في الأسر؟ هل تم تفتيش الزورقين ومعداتهما أو التلاعب بهما قبل إعادتهما؟ هل عرضت الولايات المتحدة شيئا مقابل الإفراج عنهم؟ (إن أي خطوة يقوم بها المسؤولون الأمريكيون تجاه إيران في الأسابيع المقبلة ستفسَّر على هذا الأساس بشكل شبه حتمي). وفي النهاية، ما الذي يقف وراء تحرير «الحرس الثوري» الإيراني للبحّارة؟
ويرى سينغ أن الجواب على السؤال الأخير يكتسب أهمية خاصة بالنسبة للّذين يصيغون السياسة الأمريكية تجاه إيران. وفي حين يمكن للمرء أن يأمل بأن يكون الإفراج السريع عن البحارة مبشّرا بحدوث تحوّل في دينامية السلطة الإيرانية أو في مواقف المسؤولين تجاه الولايات المتحدة، لكن من الممكن أيضا أنّ المسؤولين الإيرانيين كانوا يسعون إلى ضمان رفع العقوبات؛ إذ إنّ هذا الأمر كان سيؤجَّل حتما لو طالت مدة الحادثة.
ومع ذلك، حسب سينغ، لا بد من معاينة هذه الحادثة على ضوء الأعمال الإيرانية الأخرى، من بينها إقدام طهران على اختبار الصواريخ الباليستية، وإطلاق النيران الحية على مقربة من سفن شحن تجارية وسفن تابعة للبحرية الأمريكية، والاستمرار باحتجاز الأمريكيين من أصل إيراني، والهجوم الأخير على السفارة السعودية في طهران، والدعم الإيراني الثابت لنظام الأسد في سوريا. وتشير جميع هذه الأمور إلى استمرار سياسة إيران الإقليمية، لا على تغيّرها.
ويختتم سينغ تقريره بقوله: "ينبغي أيضا إبداء التحفظ تجاه التفسيرات الأولية. فإذا كانت أعمال إيران أكثر استفزازا مما ذكرته بعض التقارير في البداية، فإن صانعي السياسات يجازفون بتوطيد الخطر الأخلاقي إذا لم يركّزوا على ذلك الاستفزاز، بل يمنحون مكافأة على انعكاس مجراه".