زيارة بايدن لتركيا والرسائل المتبادلة

لا تكاد تخلو زيارة لنائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تركيا من جدل سياسي وإعلامي، كما حصل حين اتهمها بدعم الإرهاب ثم اعتذاره عن تلك التصريحات ثم إنكاره أنه اعتذر أصلا، ولا تكاد زيارته الأخيرة تشذ عن هذه القاعدة العامة.

قضى الرجل يومين كاملين في زيارة رسمية لم يعلن الكثير حول مخرجاتها أمام وسائل الإعلام، كعادة زياراته، لكنها خلفت وراءها العديد من علامات الاستفهام حول ما جرى وقيل وراء الأبواب المغلقة.

المصادر التركية قالت إن محادثات الرجل مع الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء داود أوغلو ركزت على ثلاثة عناوين؛ هي مكافحة الإرهاب والأزمة السورية والتوتر التركي - العراقي. كما ذكرت وسائل الإعلام التركية أن المسؤولين الأتراك أوصلوا لبايدن ثلاث رسائل واضحة، تتمثل في ضرورة دعم المعارضة السورية "المعتدلة"، والبدء فورا بإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، إضافة إلى - وهذا هو الأهم - ضرورة عدم التفريق بين تنظيم الدولة والعمال الكردستاني وقوات حماية الشعب الكردي (الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي)، باعتبارها جميعا منظمات إرهابية.

ولئن حرصت أنقرة على التأكيد أن الطرفين أكدا على تطابق رؤيتيهما حول هذه الملفات، إلا أن سياق الزيارة وبعض تفاصيلها يوحيان بغير ذلك؛ فقد خص الرجل اليوم الأول من زيارته للقاء نواب من الأحزاب التركية الممثلة في البرلمان (لم يحضر نواب حزب الحركة القومية)، حول التصعيد مع حزب العمال الكردستاني وعملية السلام الداخلية مع الأكراد. ثم اجتمع مع عائلات بعض الشخصيات السياسية والإعلامية، التي طالتها يد الاغتيال أو الاعتقال في تركيا، موجها نقدا واضحا لتركيا في مجال الحريات وحقوق الإنسان، باعتبار أن سجلها مؤخرا يشي بابتعادها عن صورتها كنموذج للمنطقة في هذا الإطار.
أما سياق الزيارة فيكفي في إطاره الإشارة إلى التطورات التالية التي تزامنت معها:

الأول، تصريحات أمريكية بضرورة نشر قوات برية في سوريا لمواجهة تنظيم الدولة، دون تحديد جنسيتها أو استثناء أي دولة منها، بما في ذلك روسيا.

الثاني، خبر أوردته وكالة الأناضول التركية عن توقعات بهجوم تنفذه قوات سوريا الديمقراطية، (أغلبها من قوات حماية الشعب الكردية) غربي الفرات الأسبوع المقبل، وهو ما تعتبره تركيا خطا أحمر من منظور أمنها القومي.

الثالث، نقد بايدن لسجل الحريات والحقوق في تركيا كما سبق أكثر من تركيزه على "مديح الشريك في الحرب على الإرهاب".

الرابع، دعوة وزير الدفاع الأمريكي تركيا "لبذل المزيد" لمواجهة تنظيم الدولة وضبط حدودها مع سوريا.

الخامس، أنباء عن استلام القوات الأمريكية قاعدة رميلان في الحسكة التي تخضع لسيطرة القوات الكردية المسلحة وتطويرها، بهدف تقديم الغطاء الجوي لهذه القوات في حربها ضد التنظيم.

ومن البديهي أن تزامن هذه التطورات في أزمة شديدة التعقيد كالأزمة السورية، لا يمكن أن يأتي اعتباطا، خاصة وهي على مقربة من بدء عملية سياسية تفاوضية بين النظام والمعارضة برعاية أمريكية - روسية، وعليه ففي طياتها الكثير مما قد يعتبر قرائن واضحة على التوجه الأمريكي ومفردات الخطاب الذي قدم لتركيا خلال الزيارة.

قال الأتراك إذن للرجل الثاني في الولايات المتحدة إن دعم بلاده لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تعتبره أنقرة " مشكلة أمن قومي"، لا تتوافق مع علاقات الشراكة والتحالف بين البلدين، وأبلغوه بعدم موافقتهم على مشاركة الأخير في وفد المعارضة في مفاوضات جنيف الوشيكة، بيد أن الرجل اقتصر في حديثه اللاحق على إدانة حزب العمال الكردستاني فقط، الذي اعتبره "ببساطة ووضوح تنظيما إرهابيا".

وعليه، فلا يبدو أن الرياح الأمريكية تسير كما تشتهي السفن التركية في البحر السوري، ولا يمكن القول إن التنسيق بين الطرفين في أفضل مستوياته في سوريا مؤخرا، بل نستطيع التوقع - دون جزم - بأن الخطوات الأمريكية القادمة في شمال سوريا تحديدا، ستتضمن إزعاجا شديدا لأنقرة واختبارا لخطوطها الحمراء، المتعلقة بالقوات الكردية واجتيازها إلى غربي الفرات.

لقد قلنا في مقالات سابقة إن إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية، الذي حمل في ساعاته وأيامه الأولى نشوة مبالغا بها، قد أدى إلى خسارة تركية على المدى المتوسط مرة في مواجهة روسيا ومرتين أمام الولايات المتحدة وحلف الناتو، ولذا فإن تطورات الأسابيع القادمة ستكون حاسمة - بناء على إمكانات وتصرف أنقرة - في تطور هذه الخسائر إلى المدى البعيد/الاستراتيجي أو انحساره وتراجع تأثيراته.