رائد مدرسة التجديد السياسي الإسلامي..
كان رقما مهما في "الحوار الوطني" الذي دعت إليه الحكومة ورفضته بعض الجماعات المسلحة في البلاد.
يعد من أشهر القادة الإسلاميين في العالم، ومن أشهر المجتهدين على صعيد الفكر والفقه الإسلامي المعاصرين، له كتاب في تفسير القرآن وكتاب في أصول الفقه، وكتب كثيرة أخرى في مجالات الإصلاح الإسلامي والسياسة، وله العديد من الرؤى الفقهية المتميزة والمثيرة للجدل.
تثار أقوال مختلفة حوله، فيرى فيه أنصاره، سياسيا محنكا بارعا في تحريك الإعلام، وخطيبا مؤثرا، وداعية ومفكرا. في حين يراه خصومه شخصا طموحا يتقن عمليات القفز ومتعلق بالسلطة.
كما يتهم بإصدار فتاوى تخرج عن السياق العام للفتاوى الإسلامية، وتتعلق بمسائل في أبواب العقيدة، واستثمار نظرية المصلحة، واستخدام مصطلح القياس الواسع، والقول بشعبية الاجتهاد. من آخر هذه الفتاوى إمامة المرأة للرجل في الصلاة، كما أصدر فتوى تبيح زواج المرأة المسلمة من أهل الكتاب وهو أمر خالف فيه المذاهب الإسلامية المتبعة.
وكثيرا ما طالبت جهات دينية وعلماء من بينها هيئة علماء
السودان باستتابة الترابي واعتبرته "مارقا وزنديقا"، بعدما أعلن أنه "لا مانع لديه في أن تؤول رئاسة السودان إلى مسيحي أو امرأة طالما كان من يتسلم المنصب عادلا ونزيها".
اعتُبر القوة التي مكنت الرئيس عمر البشير من الوصول إلى سدة الحكم.
عرف كأحد كوادر "جماعة الإخوان المسلمين"، وطرح اسمه بقوة كمرشد عام للجماعة بعد رحيل مصطفى مشهور، وكان قد انضم للعمل الإسلامي (الإخوان) في فترة الجامعة، وترأس جماعتهم في السودان حينا من الزمن، ولا زال محسوبا على "الإخوان" حتى رحيله.
حسن عبد الله الترابي المولود في شباط/ فبراير عام 1932 في مدينة كسلا شرقي السودان، ابن لقاض وشيخ طريقة صوفية مما مكنه من حفظ القرآن الكريم بعدة قراءات، ودرس علوم اللغة العربية والشريعة.
درس الحقوق في جامعة الخرطوم، ثم حصل على الإجازة في جامعة أكسفورد البريطانية عام 1957، وعلى دكتوراه الدولة بجامعة السوربون بباريس عام 1964.
بعدما تخرج عاد إلى السودان، وأصبح أحد أعضاء "جبهة الميثاق الإسلامية" وهي تمثل أول حزب أسسته الحركة الإسلامية السودانية والتي تحمل فكر "الإخوان المسلمين".
تقلد الأمانة العامة لـ"جبهة الميثاق" عام 1964، وعمل في ظرف سياسي صعب سيطر عليه طائفتا "الأنصار" و"الختمية" ذواتا الخلفية الصوفية واللتان تدعمان حزبي "الأمة" و"الاتحادي" ذوي الفكر العلماني.
وبقيت "جبهة الميثاق الإسلامية" حتى عام 1969 حينما قام الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري بانقلاب عسكري، وتم اعتقال أعضاء "جبهة الميثاق الإسلامية"، ليمضي الترابي سبع سنوات في السجن.
أطلق سراحه بعد مصالحة الحركة الإسلامية السودانية مع النميري عام 1977.
ومع إعلان حكومة نميري فرض قوانين الشريعة الإسلامية في عام 1983، انقلب نميري على "جبهة الميثاق الإسلامية" - حليفتها في السلطة- ولم يأت عام 1986 حتى أطاحت ثورة شعبية بنميري بقيادة المشير سوار الذهب.
عمل الترابي أستاذا في جامعة الخرطوم، ثم عين عميدا لكلية الحقوق بها، ثم عين وزيرا للعدل في السودان. وفي عام 1988 عين وزيرا للخارجية السودانية.
بعد ذلك أسس الترابي "الجبهة الإسلامية القومية"، كما ترشح للبرلمان ولكنه لم يفز. وفي حزيران/ يونيو عام 1989، ساند الانقلاب العسكري ضد حكومة الصادق المهدي، بعد أن طردت أعضاء حزبه من البرلمان، وألغت قوانين الشريعة الإسلامية، وعين عمر حسن البشير رئيسا لحكومة السودان إثر ذلك الانقلاب.
وفي عام 1991 أسس الترابي "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي" الذي يضم ممثلين من 45 دولة عربية وإسلامية، كما انتخب أمينا عاما لهذا المؤتمر، والذي جمع الحركات الإسلامية من الدول المختلفة وممثلي المنظمات الإسلامية في الغرب، فضلا عن المجموعات العربية، مثل "حزب البعث " و"الحزب الاشتراكي" اليمني، وبعض المنظمات الفلسطينية، بما فيها اليسارية واليمينية.
وانتخب عام 1996 رئيسا للبرلمان السوداني في عهد "ثورة الإنقاذ"، كما اختير أمينا عاما لـ"المؤتمر الوطني" الحاكم عام 1998.
أواخر عام 1999، حل الرئيس السوداني عمر البشير البرلمان واصطدم مع الترابي الذي أصبح بعد ذلك أقسى معارض للحكومة في الخرطوم.
وتطور الخلاف بينهما إلى ما يشبه الانشقاق في كيان النظام، وأبعد الترابي من مناصبه الرسمية والحزبية، ليدخل بعدها في مرحلة الاعتقالات المتكررة، ومن بينها الاعتقال الذي وقع في آذار/ مارس عام 2004 بتهمة تنسيق حزبه لمحاولة قلب السلطة.
ومن بينها حين أوقفته السلطات في أيار/ مايو عام 2010 بعد شهر على أول انتخابات تعددية في البلاد منذ 24 عاما، بعد أن ندد بالانتخابات، وأعلن أنه لن يشارك في المؤسسات المنبثقة عنها متهما حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم بـ"التزوير".
واعتقل مجددا في كانون الثاني/ يناير عام 2011 بعد مقابلة مع "وكالة الأنباء الفرنسية" رجح فيها قيام انتفاضة شعبية على غرار ما حصل بتونس في السودان.
كما دعا البشير إلى "الرحيل وأن يستغفر الله ويخرج، وذلك من أجل إنقاذ البشر من الموت في دارفور وكردفان والنيل الأزرق".
وأطلق البشير دعوة للحوار الوطني في كانون الثاني/ يناير العام الماضي لمناقشة الأزمات التي تعاني منها البلاد مع القوى السياسية، حيث رفضت الحركات المسلحة وبعض الأحزاب قبول الدعوة، ورهنت المشاركة في الحوار بتنفيذ مطالب مسبقة تتمثل في الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإتاحة الحريات، بجانب إيقاف الحرب، وتوفير ضمانات لمشاركتها.
وبعد 15 عاما من الانفصال، عاد الترابي إلى أصدقاء الأمس في السلطة، عبر دعوة البشير للحوار الوطني التي سارع لتأييدها والمشاركة فيها تمهيدا لعودة الحزبين، وطرح الترابي مسودة لاتفاق أطلق عليه "النظام الخالف"، قصد منه توحيد الإسلاميين من جديد، وعمد في أكثر من مجلس إلى بث آماله بعودة توحيد الإسلاميين وتحسين صورتهم قبل مفارقته الحياة بيومين.
ارتبط الترابي بكل تفاصيل المشهد السياسي في السودان على مدى نصف قرن، فنجده عنصرا نشطا وفاعلا في جميع المفاصل الرئيسية في بلاده، يتنقل من سجن إلى آخر، ومن موقف إلى نقيضه، مصرا على البقاء في الواجهة الرئيسية للمشهد، رغم دخوله في عامه الرابع والثمانين.
وتزخر أرفف المكتبات العربية بسلسلة طويلة من مؤلفاته من بينها كتب: "قضايا الوحدة والحرية"، و"تجديد أصول الفقه"، و"تجديد الفكر الإسلامي"، و"الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة"، و"تجديد الدين"، و"منهجية التشريع"، و"المصطلحات السياسية في الإسلام"، و"الحركة الإسلامية... التطور والنهج والكسب".
رحل الترابي تاركا إرثا فكريا غزيرا، وتاريخا سياسيا مثيرا للجدل، محاولا لملمة شظايا المشهد الداخلي السوداني الذي انشطر وانقسم إلى أجزاء كانت بحاجة إلى وجود رجل سياسي ومفكر بوزن الترابي لإعادة ترتيب الصورة الممزقة.