لم يسبق لي أن قرأت في النصوص والآثار العربية احتفاء أو إشادة بالرقص سوى تلك الإشارة النادرة من المتنبي في شعره إلى الطير يرقص مذبوحا من الألم، بدعة العرب الكبرى هي في البلاغة والشعر والبيان. يقول الباحث علي فهيم خشيم إن عبقرية الشعوب تتبدى في لغاتها. الجسد العربي جسد وقور، أما إن كان رقصٌ فمع الفرس الفالس خببا، فاللسان العربي هو الذي قال إن: المزاحة تذهب المهابة، العربي المعاصر في شبه الجزيرة بعد حلول عصر الطرب والغناء مترافقا مع عصر الهزيمة والذهب الأسود الحقير. إذا رقص فرقصه خاشع، بالجزء الأعلى من الجسم، وله أسباب، أولها أنّ العربي يرى في الصحراء المكشوفة كل شيء تقريبا، وسميت بالبادية لأن كل شيء فيها يبدو ظاهرا للعيان، والثابت فيها الشمس والقمر والنجوم والتي قلدها الترك برقصة صوفية سموها المولوية، أما حركة الناقة - سيارة العربي- فهي وقورة، ترقص على أنغام موجة البحر الرمل، والثاني: لأن الأرض إذا رقص عليها أثارت الغبار وأعشت العيون، والثالث لأن العربي طربه روحي ونفسي معتدل.. وهو لا يرقص إلا بالسيف أو أخته العصا كأن الرقص لا يجوز إلا في الحرب. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال عن مشية أبي دجانة المتبخترة، وهي غير الرقص، إنها مشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن، وقد ذكرّنا الحديث برقصة وقعت في المسجد النبوي وكانت للأحباش وليست للعرب، ورأينا ملوكا وأمراء عربا معاصرين من أرض نجد والحجاز والجزيرة العربية يرقصون ويتمايلون بالسيف أو العصا وهي غير رقصة أوباما الفالس العاطفية التي رأيناها. رقص العربي مع السلاح لا مع الملاح. أما رؤساء الجمهوريات العضوض الكلوب المنتخبون بنسب رقمية خرافية فلم يسبق لي أن رأيتهم يرقصون باستثناء صدام حسين. لم يرَ أحد جمال عبد الناصر ولا السادات ولا مبارك يرقصون، ولا حافظ الأسد الذي كان يتجنب أن يعانق بين رجليه أو يظاهر بينمها حرصا على العدل أو خوفا من أن تكون رقصة! والسيسي.. لنتصور السيسي وهو يرقص بالنبوت. ستزداد شعبيته ويزاد الناس عشقا فيها وتزداد نسبة الانتحار في نهر النيل. أما إذا رقص بشار فتلك ثالثة الأثافي. رأى صديق من الأقليات عربيا من الصحراء السورية يرقص فأشفق عليه وعدّها مأساة، فالعربي كان يحرك جسمه الثابت المكين، وقد وزع الله تبارك وتعالى الهبات والمواهب على خلقه فكان حظ العرب منها البلاغة.
سقت هذا المقدمة الطويلة لأبيّن كيف حوّل الأسد وأقرانه من الزعماء العرب الجمهوريين الوطن إلى سيرك والشعب إلى راقص، في أعراس الذل الانتخابي. وكان التلفزيون السوري في أيام التلفزيون الأبيض والأسود يكرر كثيرا أغاني شحرورة الوادي صباح وأغنية لمصري يرقص رقص النساء ويهزُّ خصره، وكانت تلك رسائل لا تعرف سوى زرقاء اليمامة فحواها.
ومن أشد المواقف حرجا وجيه قبيلة عربية شكا لي قائلا: إنه لم يسبق له أن ذاق ذلاً كالذي ذاقه في مناسبة الاستفتاء الرئاسي المعروف النتيجة، فقد اقتيد من منزله "معززاً مكرماً" وبقي حتى العصر في المسيرة، وجرّ إلى الرقص وهو يحمر خجلا فلم يكن سبق له أن رقص في حياته.
الرقص تعبد وطقوس دينية لدى القبائل التي يسميها الخواجات المستشرقون بالبدائية، وغالبا ما يصلون بعد السكر وإنهاك الجسد بالرقص إلى حال من الوجد والنيرفانا؛ يتحد فيها العبد بالمعبود الذي غالبا ما يكون طوطماً حيواناً، ويتحقق الوصال الدنيوي بالروحي، الشعوب غير العربية ترقص كثيرا في المناسبات، وبعض الشعوب رقصها معقد ومركب، وثمة أقوام الرقص فيها هوية مائزة، أما في الرقص السوري والمصري الانتخابي فغايته البراءة من الشرك بالرئيس، ارقص تنج. الرقص الانتخابي معقمٌ من الفن والتعبير.
الرقص الانتخابي العربي في سوريا عبادة ديمقراطية، وفي
مصر: رقص مهدورٌ لا إبداع فيه يشبه الإنتاج العربي في العمل، توقيع بالخصور والأقدام لا غير على دفتر الولاء، قد يستمع المستمع برؤية رقصة أنثوية وفصاحة جسدها لكنه رقص لن تأبه باليونسكو الموقرة به.. يقول شعارٌ مرفوعٌ في شوارع سورية مهدداً السوري - وهو لا يحتاج إلى تهديد جديد بعد كل هذه البراميل، ودروس الكيمياء والقِصابة والتي تؤكدها وثائق يومية وأخرى مسربة بآلاف الصفحات: إن لم تشارك بالانتخابات فأنت خائن وتحقق رغبات أعداء سورية. وتهديد آخر مضمر يقول: ارقص حتى تقتل الأعداء غيظا وليس ضحكا. في الديمقراطيات الغربية واللاتينية يرقص الرئيس كما رقص أوباما حتى يثبت شبابه وليونته الجسدية، فالرقص من تقاليد هذه الشعوب وفروسية أما في بلادنا التي لا يقع الرقص في تقاليد أكثريتها الساحقة فالشعب يرقص للرئيس. هو عرض بالمقلوب: الشعب سيثبت ليونته ومرونته وشبابه للرئيس الذي يستفتي عليه، وها هوذا يرحّل جميع أبناء الشعب الذين لا يحسنون الرقص على الطبل الفارغ.
كان جاري في السكن وجيها من وجهاء بلدته، نازحا، ويهوى الثقافة وجمع اللقى والآثار فجعل دارته متحفا، وعندما صاح الفتى السوري: الشعب السوري ما بينذل انتفض أولاده مع من انتفضوا، فاستشهد أحدهم واعتقل آخر، ثم رأى النظام الذي كان في البدايات تائها بين معادلة: بوط وعينٌ الرياضية القمعية، تائها بين العقاب الشامل والثواب الجزئي، فعينه في المجلس البلدي ثم اعتقله فخرج بعد شهر من العذاب مذلولا، ثاكلا، أما أقسى ما رآه في حياته كلها هي الليلة التي دقّ عناصر الحاجز العسكري الباب، وطالبه بالنزول للمشاركة في حفلة انتصار النظام بالفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن على... شعبه.
كل هذا الرقص تدريب على إعادة الأراضي المحتلة. الرقص فن، والفن مقاومة وممانعة، ويمكن أن نعدل عنوان فلم إغراء الشهير من "راقصة على الجراح" إلى "رقص على القبور".