على الرغم من رسوخ
التدين وتجذره في العالم الإسلامي، فإن هذا لم يمنع من وجود حالات تقل في دولة وتكثر في أخرى يمكن إدراجها تحت عنوان "
الإلحاد"، بحسب مراقبين وباحثين.
ونظرا لتحرج غالب ملاحدة العرب من إعلان موقفهم الحقيقي من عقيدة الإيمان بالله، وإفصاحهم عما يعتقدونه في مجتمعات متدينة بطبيعتها، ينظر إلى الملحد فيها بعين الاحتقار والازدراء، فإن من الصعب الوقوف على أرقام حقيقية تعبر عن حالات الإلحاد في العالم الإسلامي بدقة.
غير أن تتبع بعض المواقع على الشبكة العنكبوتية، ومواقع التواصل الاجتماعي، بما توفره من منابر حرة للتفكير والتعبير، من غير أن تشترط الكشف عن هوية أصحابها، تشي بوجود تلك الحالات المتكاثرة، التي يفصح من يقوم عليها، ويشترك في عضويتها عن مواقفهم الصريحة من الأديان.
ووفقا للباحث الشرعي السعودي، أحمد السيد، فإن رصد ظاهرة الإلحاد والحديث عنها، لا ينبغي أن يقتصر على الإلحاد الصريح فقط، المتجسد في إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، لأنه في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون نتيجة لمقدمات استشكالية تراكمية سابقة، تتمثل في الاعتراض على النصوص الشرعية، والقضايا الدينية، سواء من جهة ثبوتها، أم من جهة فهمها وتأويلها.
وأوضح السيد لـ"
عربي21" أن الاعتراض على النصوص الشرعية، والتشكيك بها قد يفضي في مآلاته إلى الإلحاد بالكلية، وقد لا يفضي إلى ذلك، ومظاهر الاعتراض تلك كثيرة ومنتشرة جدا في أوساط المسلمين، أما رصد ظاهرة الإلحاد الصريح فلا يمكن إعطاء أرقام دقيقة بشأنها طبقا للسيد.
وأضاف السيد أن الاعتراضات على النصوص الشرعية، والقضايا الدينية في ازدياد دائم، بسبب الانفتاح الإعلامي والتواصلي في عالمنا اليوم، ما جعل المعلومات تنتقل بسهولة وانسيابية بين الناس على تباعد مواقعهم الجغرافية، وكذلك نتيجة انعكاسات الموجة الإلحادية الجديدة في العالم الغربي على عالمنا الإسلامي.
وعن انتشار ظاهرة الإلحاد الصريح وشيوعها في المجتمعات الإسلامية، فقد لفت السيد إلى اختلاف التقديرات بشأن حجمها في العالم الإسلامي، مشيرا إلى أنها ليست ظاهرة بشكل لافت وواضح، على الأقل في المجتمعات الإسلامية المحافظة، وإن كانت بعض المعطيات توحي بازديادها وتناميها في السنوات الأخيرة.
عادة ما يشير المتحدثون في سياق ذكرهم لأسباب انتشار ظاهرة الإلحاد إلى عوامل خارجية تدور حول انتشار الإلحاد وشيوعه في الخارج وطرق انتقاله إلى العالم الإسلامي، وأخرى داخلية تتمحور حول الظروف الداخلية وضعف التربية الدينية والإيمانية، وثالثة تتعلق بطرق وآليات معالجة مشاكل الإلحاد والمتمثلة بقصور الخطاب الديني في التصدي لشبهات الإلحاد ومواجهته مواجهة عقلانية واعية.
من جهته اعتبر الباحث الفلسطيني، أحمد أبو ارتيمة "الإلحاد من زاوية نفسية اجتماعية حالة احتجاجية، وقد تكون حالة ثأرية انتقامية يغذيها شعور الشباب بالظلم والقهر، وعجز الخطاب الديني السائد عن صياغة خطاب إنساني قادر على تحقيق العدالة وإظهار القيم الإنسانية".
وأضاف أبو ارتيمية في حديثه لـ"
عربي21": "الإلحاد هو ردة فعل متطرفة في المجتمعات التي يسود فيها الظلم ويفشل فيها المتدينون من إقناع الناس بأن الدين قادر على تقديم حلول فاعلة لمشكلاتهم الاجتماعية الملحة" منوها أنه بهذه النظرة لا يرى فرقا جوهريا بين الإلحاد و"الدعشنة"، بل يراهما يلتقيان في الدافع النفسي على حد قوله.
ووفقا للباحث الفلسطيني أبو ارتيمية فإن "ما يجمع الملحد و"
الداعشي" هو أن كليهما عاجز عن الانسجام مع المجتمع أو القيام بدور إيجابي لإصلاحه، وناقم على المجتمع فيلجأ إلى أحد طرفي النقيض معلنا بذلك نقمته".
وعن مدى منطقية الأسئلة التي يطرحها الملاحدة، أجاب أبو ارتيمة بأن "هناك الكثير من تلك الأسئلة منطقية فعلا، وتحتاج إلى إجابات شافية تحترم العقل الإنساني، لكن سطحية الأطروحات الدينية السائدة وعجزها عن تقديم محاججة فكرية عميقة على تلك الأسئلة يدفع الشباب إلى رفض الدين".
واستطرد أبو ارتيمة في شرحه قائلا: "من الناحية الفكرية المبدئية لا توجد أسئلة تمثل خطرا على حقيقة الإيمان، لأن الإيمان بطبيعته حركي وهو حالة من الجدل الداخلي تقود الإنسان إلى الطمأنينة بعد رحلة شك وبحث وتساؤل، وهذا هو منهج شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام في القرآن الذي مر بتجربة بحثية وهو يبحث عن الإله الحق".
وانتقد أبو ارتيمة نمط التدين السائد واصفا له باعتياده على تقديم إجابات معلبة وجاهزة، يستقيها من كتب التراث، فيقف عاجزا عن إرواء ظمأ الشباب المعرفي أو يلجأ لمداراة عجزه بتحريم السؤال، بزعمه أن الفكر قد يقود إلى الكفر.
وبحسب أبو ارتيمة فإن ذلك النمط من الخطاب الديني يحدث "فجوة كبيرة بين الشباب المتطلع إلى المعرفة وإرواء بحثه الفكري والفلسفي، وبين شيوخ الدين الذين بنوا تدينهم على التقليد لا على التفكير والتأمل".
في السياق ذاته، أكدّ الباحث الشرعي الأردني، محمد إدريس، أن "الإلحاد بات ظاهرة واقعية في العالم العربي، يمكن مواجهته بالانتباه إلى مناهج المتكلمين والأصوليين من علمائنا المسلمين، واصفا من تصدى لمواجهته بأنهم اتبعوا "مسالك وأساليب أدبية"، مع أنه لا يمكن مواجهته إلا بسلاح عقلي محض، بحسب قوله.
وأشاد إدريس في حديثه لـ"
عربي21" بما قام به كبار فلاسفة الشيعة – مع انتقاده المبدئي لأصول مذهبهم – في مواجهة الإلحاد بنقض أفكاره بطرق عقلانية ومنطقية متينة، ككتاب (فلسفتنا) وغيره لمحمد باقر الصدر.
وأشاد إدريس كذلك بجهود الشيخ مصطفى صبري (آخر من تقلد منصب شيخ الإسلام في الخلافة العثمانية)، في تأسيسه لمنهج سني علمي أرسى معالمه في كتابه المتميز جدا (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)، والذي يصلح أن يكون قاعدة لبناء فكر قادر على مواجهة دعاوى الفكر اللاديني الحداثي الإلحادي وإظهار تهافتها وإبطالها.