يبدو أن علاقة حركة
النهضة بالإخوان المسلمين وبتنظيمهم الدولي قد تحولت إلى صداع مزمن بالنسبة للشيخ راشد
الغنوشي وتلامذته في
تونس.
لقد أدلى عشية المؤتمر العاشر للحركة بتصريح لصحيفة "لوموند" الفرنسية أكد فيه أن "النهضة حزب سياسي، ديمقراطي ومدني له مرجعية قيم حضارية مُسْلمة وحداثية (...) نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية".
وأضاف: "نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديموقراطية المُسْلمة. نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نعرّف أنفسنا بأننا (جزء من) الإسلام السياسي".
يعدّ هذا التأكيد الأول من نوعه الذي يقدم عليه راشد الغنوشي بعد سنوات طويلة كان خلالها يتجنب الخوض في هذه المسألة، أو ينفي صحتها، أو يكتفي بالتأكيد على استقلالية حركة النهضة، وبكونها تنظيما تونسيا، لحما ودما. لكنه هذه المرة أعلن بكل وضوح أن حركته ستخرج من الإسلام السياسي، أي أنها كانت داخل هذا "الإسلام"، وهي اليوم قد قررت الخروج منها، والتحرر من أسواره، وأصبحت حلا من التزاماته وتبعاته.
لم يكن بالإمكان أن يمر هذا التصريح دون أن يثير سلسلة من ردود الفعل. ومن أهم هذه الردود تلك التي صدرت من داخل الإخوان، أو من قبل بعض أصدقاء الغنوشي المطلعين بشكل جيد على علاقاته السابقة بالتنظيم الدولي.
وسأكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى شخصيتين تعتبران من المقربين من رئيس حركة النهضة، وقد ربطته بهما صداقة وثيقة خلال فترة لجوئه القسري في بريطانيا.
ذكر صاحب قناة الحوار التميمي، أن تصريحات بعض قادة حركة النهضة "تفيد التبرؤ من جماعة الإخوان المسلمين كما لو كانت كائنا يحمل جرثومة قاتلة يخشى الناس على حياتهم من انتقالها إليهم، لدرجة أن أخوينا ذهبا -دون ضرورة على الإطلاق وفي مخالفة صريحة لحقيقة التاريخ- ينفيان نفيا قاطعا أن حركة النهضة كانت في يوم من الأيام تنتمي إلى الإخوان المسلمين".
وذكّر بأن الإخوان كانوا لأعضاء حركة النهضة "عونا في أحلك الظروف وأشدها"، متسائلا "ما الذي يجري يا إخواننا في حركة النهضة؟ هل تراه تحديا للسلطة بعد العودة من المنافي؟ هل تراه همس الهامسين في آذان بعضكم في منتديات تعقد هناك وهناك، أن غيروا قبل أن تتغيروا وبدلوا قبل أن تستبدلوا؟ هل هي صدمة الانقلاب على الإخوان في مصر؟ هل هو صراع من أجل البقاء، بأي ثمن وبأي شكل؟ وما قيمة البقاء إذا تخلى الإنسان عن أعز ما يملك؟".
أما بشير نافع، فقد وصف ما حدث بـأنه "انعطافة أخرى" لحركة النهضة التي اعتبر أنها كانت "دائما إحدى قوى الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي السياسي، وليس ثمة شك أن الحركة ساهمت في الجدل الفكري والسياسي داخل الجسم العام للإخوان؛ وكان لها، على الأقل في مناسبة واحدة، دور إيجابي في تحولات وتطور رؤية الجماعة، مثل بياني منتصف التسعينيات التاريخيين حول مسألة المرأة والنهج الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة".
وأكد أنه "ليس ثمة ما يدفع إلى الخجل، أو يستدعي الإدانة".
وفي محاولة منه لنسف مبررات قيادة حركة النهضة لهذه الانعطافة، ذكر أن "الخصوصية المغاربية ليست في الواقع سوى أسطورة مصطنعة، وأن النهضة، كما بعض المثقفين المغاربة، باتت تصدق ما يبدو أنها ساهمت في اصطناعه. أما التفسير الآخر فيقول إن النهضة التي خشيت عواقب اندلاع الثورة المضادة في صيف 2013، تختار طريق السلامة. الحركات السياسية هي، بالطبع، كائنات حية، وبعض الخشية والتحسس أحيانا ليس بالأمر السيئ. ولكن الخشية والتحسس لا يجب أن تودي بحركة سياسية، ذات تاريخ طويل من النضال والتضحيات، إلى الارتباك والتسرع".
ما ورد على لسان هاتين الشخصيتين كاف لمعرفة حجم الأزمة التي فجرها موقف الغنوشي وبعض أنصاره مع حليف سابق كان يعتمد عليه كثيرا للتخفيف من حجم العزلة التي كانت تواجهها الحركة خلال أيام الجمر.
لكن في المقابل، لا ترتكز العلاقات السياسية فقط على المشاعر العاطفية والرواسب العقائدية، وإنما تتأثر أيضا بالمصالح الجديدة وبالمتغيرات التي تحصل في الطريق. فموقع حركة النهضة اليوم مختلف كثيرا عن موقعها في مرحلة التأسيس أو مرحلة "المحنة".
فهي تعدّ حاليا أقوى حزب سياسي في البلد، وفي الوقت ذاته يسكنها هاجس الخوف من أن يتم عزلها من جديد وإعادتها إلى أسوار المطاردة والإقصاء. وهي إذ سبق لها أن رحبت بصعود الإخوان إلى موقع الحكم في مصر، وظنت بأن ذلك من شأنه أن يوفر لها حليفا استراتيجيا هاما، لكن ذلك سرعان ما تبخر، وكادت الإطاحة بالإخوان تجرف وراءها حركة النهضة وتقضي على الفرصة التاريخية التي توفرت لها.
فاليوم الإخوان المسلمون حركة ضعيفة ومطاردة، يتوجس منها الجميع، إلى جانب كونها قد فشلت في اختياراتها وفي إدارتها للحكم. هكذا يفكر العديد من قادة حركة النهضة في تونس، وفي مقدمتهم راشد الغنوشي، الذي يعتقد أنه ليس من المنطقي أن يبقي على حركته فوق مركب يغرق. وما حصل في تونس مرشح لكي يتكرر في دول أخرى. فباخرة التنظيم الدولي لم تعد صالحة للركوب.