هذا المقال مبنيٌ من أربع حركات موسيقية؛ مقدمة ذاتية ونسيب وذكريات ووقوف على الأطلال، ثم تأتي الحركة الثانية، وهي حقل فكري فيه محاصيل فكرية وفقهية، وحركة ثالثة سياسية ختامية:
الغرب يحبون القاتل رقم ستة في العالم، يعبدونه تقريبا، وقدِّر ضحايا القاتل رقم ستة في ملعب القتلة المحترفين بأربعين ألف نسمة سنويا. البعوض هو القاتل الأول، الإنسان هو الثاني يا قرة العين ومهجة الفؤاد، دودة الأسكاريس هي الثالث، الثعابين هي الرابع.. الأوربيون يكادون يقدّسون الكلب القاتل. ألمانيا تنفق على الكلاب والهررة أربعة ملايين يورو سنويا! الهنود أكثر تقديسا للأبقار من الأوربيين للكلب لكن الأوربيون أتقى وأورع، والفرق هو في الأسماء والمسميات يا قرة العين وحشاشة الكبد.
كانت هرتنا، هي هرة الحارة كلها، الهرّة ملكية شبه عامة، أما الكلب فهو عادة ملكية خاصة، تروي الأخبار أنّ هتلر غضب عندما وجد كلبه يلهو مع أحد ضيوفه الساسة. لم يكن لأحد من جيراني كلب، فأهل البلدة معظمهم من المسلمين الشافعية. المسلمون بمذاهبهم الأربعة يتجنبون تربية الكلاب فالبيت الذي فيه كلب لا تدخله الملائكة. حاولت وأنا صغير استئناس جرو صغير حلو، فوجدت أهلي قد رّحلوه وقد أبى أن يفارقنا فالراحلون همُ. الكلب يتعلق بشخوص الدار، بالبشر، أما الهرة فتتعلق بالمكان نفسه. كتبت قصة عن هريرة صغيرة سميتها "حكاية البئر التي تموء" فراسلتني صديقة كاتبة لتعرف مصير الهريرة المسكينة التي سقطت في "المنور"!
يجري عبد الوهاب المسيري مقارنة بين الحديثين الشريفين في مجال الرفق بالحيوان في الإسلام، في مقام التجريد والتعميم. الحديث الأول: "عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض".
يقوم المسيري بشرح الحديث لتبيان النموذج الكامن في الحديثين الأول والثاني، فيقسم الحديث إلى وحدات متقابلة، بعناصرها الأولية. الحديث الأول: امرأة- هرة- جوع- زيادة الجوع- موت- جهنم. في الثاني: رجل- كلب- عطش- ري للعطش- حياة- جنة.
في الحديث الأول امرأة، في الثاني رجل. في الأول هرة، وفي الثاني كلب. في الأول جوع، وفي الثاني عطش. في الأول قتل الحيوان جوعا، وفي الثاني رفق به وإحياء له، في الأول نار، وفي الثاني جنة. وعند تحليل المضمون ربطا وتجريدا يقول المسيري: الهرة والكلب من جنس الحيوان، والمرأة والرجل من جنس الإنسان، وبطلا الحديثين هما أنثى وذكر. الأنثى قاتلة لهرة أقرب إلى طبعها والذكر رحيم بكلب فيه خشونة، التجويع وريِّ العطش فعلان إنسانيان، وموت الهرة وحياة الكلب نتيجة مادية، الجنة والنار نتيجة روحية. الكلب الذي يتنجس المسلمون منه أدخل الرجل الجنة، والهرة الطاهرة أدخلت المرأة النار. ورد في سنن أبى داود وغيره أن امرأة أرسلت بِهَرِيسَةٍ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَوَجَدَتْهَا تُصَلِّي فَأَشَارَتْ إِلَيَّ أَنْ ضَعِيهَا فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَأَكَلَتْ مِنْهَا فَلَمَّا انْصَرَفَتْ أَكَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَكَلَتْ الْهِرَّةُ فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا".
الحديث لغويا: فاعل ومفعول به، وفعل وعاقبة، الإنسان هو الفاعل، والحيوان هو المفعول به، وثمة فعل يؤدي إلى نتيجة.
يرفع المسيري الربط والتجريد إلى مستوى معرفي أعلى مستعرضا المفاهيم الأساسية في الإسلام (الاستخلاف- الأمانة- وضع الإنسان في الكون)، إنه يساعدنا في الوصول إلى البعد المعرفي بين الإنسان والحيوان. الحديثان يعرضان علاقة الإنسان بالحيوان وبالطبيعة، وعلاقة استخلاف واستئمان. الإنسان في مركز الكون وقد استخلفه الله على الأرض ومنحها له، ولكنه ليس بصاحبها، ثم يصل إلى أننا من دون المقدرة على التعميم الخلاق، لا يمكن أن نتحرر من الواقع المباشر.
الحيوانات تُدْخل الجنة والنار في الإسلام، و"هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا"، وفي أخبار عمر أنّ عمر بن الخطاب رأى في حلمه أنّ عصفورا أدخله الجنة، وليس تقواه وعمله! قد تنقل الهرة أمراضا، الإنسان ينقل أيضا أمراضا، لكن الهرة أكرم من الكلب وليست في قائمة القتلة، فهي تموء والكلب ينبح والمواء موسيقا طيبة والنباح خشن وإذا زاد يغضب.
الهرة أقل تعلقا بالإنسان، والإنسان أقل تعلقا بالهرة من تعلقه بالكلب، والآخرة خير وأبقى، أما الكلب فقد جاء اسمه من الكلاّب، والهرة من هريرها لغويا ،الهرة تواري فضلاتها، وسؤرها طاهر، أما الكلب فطهور لسانه سبع مرات إحداهن بالتراب. وقرأت عن عالم ألماني أسلم بهذا الحديث الشريف. وفرق كبير بين موسيقا المواء والنباح. وكان الكلب هو الذي يعلق بالإنسان إذا أطعمه فيلازمه ويلصق به، فصارت الناس تولع بالكلب وتعلق به وتعشقه وتعبده، لعلّة الوحدة التي يعانيها الإنسان المعاصر المغترب الذي سحقته الألة حسب تفسير نفسي معروف. الخلاصة: الهرة في دين السلام أحسن من الكلب، والناس تغضب من بعضها فتشتم فتقول: كلب ابن كلب، وتغازل بالقطة، فيقول العاشق أو المعجب بالحسناء: يا قطة.
الخلاصة: الكلب هو القاتل رقم ستة في العالم، لكن القاتل رقم واحد في سورية ومصر هو السيد الرئيس، وحكام أوربا يحبونهما، والفرس يعشقونهما والروس كذلك، فسبحان من جمع الأشتات في حبِّ الكلب ابن الكلب. الدولة التي رئيسها كلب لا تدخلها ملائكة ويدخلها محتلون وعصائب الباطل وزناة الأرض والدواعش... وللكلب الرئيس موالون وأتباع يعبدونه أكثر من بقرة الهند وثعبانها، وقد أدخل نصف شعب سورية في الجنة والنصف الثاني في النار.
الناس عندما يرون رئيسا سفاحا يقصف شعبه بالبراميل والأشرار وعبدة النيران، تشتم وتقول: كلب ابن كلب.
وعندما يرون سيدة لطيفة مثل أنجيلا ميركل يقولون لها قول العشاق المحبين: يا قطّة.