من بين الأمراض القاتلة التي يمكن أن تصاب بها المجتمعات تبادل التهم وإلقاء مسؤولية الخلل على الطرف المقابل، واعتقاد الجميع بأنهم فوق الشبهات ولا دخل لهم في ما يحصل من مشاكل ومصائب.
فالمجتمعات التي نجحت واستعادت المبادرة الحضارية وكان لها موقعها في صناعة الأحداث الكبرى هي تلك التي اعتمدت على أبنائها وبناتها، ومكنتهم من ثقة استثنائية في أنفسهم وإمكاناتهم الذاتية، فاندفعوا في تحقيق المغامرات التي كانت تعتبر من باب المستحيل.
تذكرت هذه القاعدة الذهبية، وأنا أتابع المشهد
التونسي الراهن. فهذا البلد توفرت له فرصة تاريخية للقطع مع الاستبداد السياسي، والشروع في تحقيق تنمية حقيقية وعادلة وذات وجه إنساني، وتفيد كل التقارير التي أنجزتها جهات محايدة وذات مصداقية بأن تحقيق ذلك ليس مستحيلا؛ فتونس تتوفر فيها جميع الشروط المساعدة على أن تشكل استثناء فعليا في منطقة الشرق الأوسط، فعدد سكانها لا يتجاوز الأحد عشر مليون نسمة، وموقعها استراتيجي، ما جعل العديد من الإمبراطوريات في العالم القديم تتنافس للهيمنة عليها، ولها نخبة إصلاحية يتجاوز عمرها المائتي سنة، وتحققت بها إنجازات فعلية قبل الاستقلال وبعده، ولها دور هام للنساء والشباب، ومع ذلك يوجد تعثر يثير قلق المراقبين منذ أن حدثت الثورة وتغيرت تضاريس النظام السياسي.
هناك من يزعم أن النظام القديم عاد من جديد، وهو الذي يقود البلاد ويقف ضد تحقيق أهداف الثورة ومطالب الشعب. ولكن المتأمل في حيثيات الواقع يدرك أن هذا الادعاء فيه كثير من التضخيم وإن كان يتضمن قدرا من الحقيقة.
لقد أصيب النظام القديم بتصدعات كبيرة، لأن سقوط الرأس يؤثر بشكل ملحوظ على بقية أعضاء الجسم، وما حدث في تونس يختلف عما وقع في مصر أو اليمن.
لقد رحل الدكتاتور وهذا عنصر هام من عناصر التصدع، لأن الاستبداد يحتاج إلى مستبد يمسك برقاب الناس ويخضعهم لإرادته، كما تم حل الحزب الحاكم السابق الذي هيمن على الحياة السياسية ومؤسسات الدولة لمدة تقارب الستين عاما، ولم يستطع هذا الحزب حتى الآن أن يستعيد وحدته رغم توفر جميع الحريات والشروط القانونية لذلك.
وبانهيار هذا الحزب تفكك العقد الذي كان يستند عليه للاحتفاظ بالسلطة، فأجهزة الأمن اتخذت مسافة ملحوظة عن الأحزاب السياسية رغم القول بأن هناك من يحاول أن يوظفها لخدمة أجندات حزبية، كما فكت الحركة النقابية ارتباطها السابق بالسلطة وتحولت إلى سلطة مستقلة، وما حصل مع هاتين المؤسستين الهامتين، يمكن تعميمه على بقية المؤسسات والمنظمات والجمعيات.
ماذا بقي من النظام القديم؟ بقيت مجموعات الإدارة، كما بقيت مجموعات المصالح وانضافت إليهما شبكات الفساد والتشريعات السابقة التي لم يعد بعضها متلائما مع المتغيرات التي حصلت.
الخلل الرئيسي الحاصل في تونس اليوم، وبعد خمس سنوات ونصف من ثورتها، يعود في كثير منه إلى النخبة الجديدة التي توفرت لها الفرص لكي تصعد إلى الحكم، أو تحتل موقعا مؤثرا في المعارضة، إذ نادرا ما تجد بين هؤلاء من كانت له تجربة سابقة في السلطة، أما الأغلبية الواسعة جدا فقد فتحت أمامها أبواب القصر الرئاسي أو الوزارات دون سابق خبرة. هذا الأمر ليس عيبا في حد ذاته لأن كل سلطة تحتاج إلى كوادر جديدة تدعمها وتغذيها، لكن عادة ما تكون هذه الكوادر قد تدرجت في مراتب المسؤوليات واكتسبت بفضل ذلك الحد الأدنى من الخبرة وثقافة الدولة.
من مشاكل الطبقة السياسية الجديدة في تونس أنها موزعة في معظمها على أحزاب متصارعة مثل قبائل العهد الجاهلي، وكل حزب بما لديهم فرحون، والمعضلة أن بعض هذه الأحزاب في حالة تآكل داخلي مثل حزب نداء تونس الذي انقسم على نفسه بعد وصوله إلى السلطة، وها هو الجناح الذي بقي في الحكم لم ينجح حتى الآن في الاحتفاظ بوحدته ولا يملك رؤية سياسية ناضجة ومتماسكة، حتى حركة
النهضة، رغم استمرارها في حماية وحدتها من تصدعات عميق ، إلا أنها لا تزال تفتقر لمقومات الحزب القادر على الحكم بمفرده، وذلك لاعتبارات عديدة، من بينها عدم امتلاكها لبرنامج سياسي واقتصادي متين وقادر على إخراج البلاد من النفق الذي تردت فيه.
إن الاكتفاء بتوجيه النقد فقط للنخب السياسية لن يكون كافيا لفهم ظاهرة الإخفاق أو على الأقل التعثر الذي تشهده تونس بعد الثورة.
هناك جزء لا بأس به من المواطنين الذين يتحملون مسؤولية العجز المتفاقم في البلاد. العاطلون عن العمل يريدون أن تتوفر لهم وظائف، وإن لم يجدوا فإن العديد منهم مستعد لتعطيل بعض المؤسسات الحيوية في البلاد. وهذا ما حصل ولا يزال في أهم قطاع استراتيجي في تونس وهو قطاع الفسفاط. فالشركة التي تتولى استخراج الفسفاط وتكريره وتصديره تعاني حاليا من عجز بسبب توظيفها لنسبة أعلى من قدرتها في مجال العمل. ومع ذلك فهي تعيش تحت ضغط طالبي الشغل الجدد في المناطق المحرومة التي توجد بها المؤسسة، ويتمتع هؤلاء بالقدرة على تعطيل أجزاء هامة من وحدات الإنتاج التابعة لها، ما جعلها تتوقف عن العمل بشكل جزئي، وأصبحت غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه حرفائها الذين توجهوا إلى المغرب وغيرها من البلدان، وهي اليوم كشركة مهددة بالتوقف والإفلاس. فخسائرها اليوم تجاوزت حجم الديون التي حصلت عليها تونس بعد الثورة.
كل ذلك يعني، أن الشعب الذي لا يعرف كيف يستغل الفرص التاريخية يكون هو المسؤول عن فشله في المستقبل، لأن حركة التاريخ ليست حركة عبثية.