ليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها الدكتور محمد
البلتاجي عن
تعذيب تعرض له على يد مدير مصلحة
السجون اللواء "حسن السوهاجي"، لكنها المرة الأولى التي تحدث فيها بالتفصيل، فأرّق وجداننا وأشعرنا بالعجز والخيبة؛ لأن وجود أمثال "حسن السوهاجي" في الخدمة إلى الآن، يذكرنا بخيبتنا الثقيلة في يناير، التي أردنا لها أن تكون "ثورة الحب الصافي"، فلما تنحى مبارك انصرف شبابها ليجملوا الشوارع، ويقوموا بتلميع الأرصفة!
ثورة رومانسية حالمة، لم يشارك فيها على "مدد الشوف" ثوار، فقد قام بها من فاتهم "زمن الحب" فجاؤوا ليروجوا قيم "الكازينوهات"، على قاعدة "إذا فاتك الحب تمرغ في ترابه"، ولم نشاهد ثوارا، وإنما رأينا "عشاقا" يجلسون في "كازينو الشجرة"، يحتسون الليمون على "زقزقة العصافير" في "ساعة العصاري"!
تعرضنا لخديعة دولية، قادها الرئيس الأمريكي أوباما، الذي أدخل علينا الغش والتدليس، وهو يثمن هذه الرومانسية، ويدعو شباب بلاده أن يكونوا مثل الشباب
المصري، وفي ظل فيضان العواطف الجياشة قبلنا حكم المجلس العسكري، الذي لم نختره، فاختياره كان قرار مبارك الذي ثُرنا عليه، كما أن أعضاء هذا المجلس برئاسة وزير الدفاع لم يأتوا إلى مواقعهم بانتخابات داخل الجيش، ولكن بالإرادة الحرة للمخلوع، وفق قواعده في الاختيار والاصطفاء، ولم يكد أحد قادة هذا المجلس يؤدي التحية لشهداء الثورة في البيان الأول، حتى كدنا نشيد له مقاما، ونمنح قائده المشير محمد حسين طنطاوي لقب الثائر الأول!
عندما تحدث الدكتور محمد البلتاجي عن تعذيبه سابقا على يد حسن السوهاجي، ذهبت لأبحث عن معلومات عنه، من حيث مرحلة النشأة والتكوين، وقد توصلت في النهاية إلى أن "السوهاجي" في اسمه ليس لأنه من أبناء محافظة "سوهاج"، وإن كنت لم أتوصل لمسقط رأسه، الذي أفرز هذه الحالة المرضية، فالذي يستأسد على سجين لا حول له ولا قوة، لا يمكن أن يكون شخصا طبيعيا، وإنما هو كائن يعاني تشوهات نفسية، يهمني بشكل خاص أن أتوصل لجذورها!
وحتى وإن كانت "سوهاج" هي مسقط رأس الفتى، فليس دائما "الأصل الصعيدي" يمنع من وجود هذه التشوهات النفسية، فهناك وجود قديم لبقايا الدولة المملوكية التي هربت إلى هناك واستقرت عندما تمت هزيمتها!
لقد تجاوزنا حديث التعذيب الذي تعرض له الدكتور "البلتاجي" على يد مدير مصلحة السجون اللواء "السوهاجي"، لأن الاستمرار في ذكره يشعرنا بالعجز، ولست من هؤلاء الذين يجيدون "حرفة الولولة" كالنساء!
وبينما أفتش في دفاتري القديمة، عثرت على اسم "حسن السوهاجي" في مقال لي عن أحداث "الهلالية" و"الدابودية" بمحافظة أسوان، وهي الأحداث التي بدأت بمشاجرة بين القبيلتين وانتهت بعمليات قتل بينهم، وقد حققت هذه القضية بنفسي عن بعد، ووقفت على أن ما جرى كان بتحريض من السلطة المحلية، التي مشت بين القبيلتين بالنميمة، ودفعتهما للاشتباك، انتقاما منهما، فقد كان مقررا أن يبدأ السيسي حملته الانتخابية (تم التراجع عنها) من أسوأن وفي حضور قبلي، لكن القبيلتين الأكبر في المحافظة رفضتا المشاركة لأمر يخص كل قبيلة، تعرضنا له في حينه!
كان ملاحظا أن أجهزة الأمن لم تتدخل منذ البداية لوأد الفتنة في مهدها، وكان "السوهاجي" يشغل منصب مدير أمن أسوان، فقد برر عدم التدخل والاهتمام، بأنه جاء للمحافظة لتعقب
الإخوان المسلمين، وليس مشغولا بأي شيء آخر!
بالظاهر من الأوراق، فإن "حسن السوهاجي" قد قصر في مهام وظيفته، على نحو يجعل من استمراره في منصبه قرارا سياسيا معيبا، لكن بتجاوز الظاهر من الأوراق إلى الغوص فيها، يتضح أنه نجح في مهمته الأمنية، وقد تأجج الصراع بين القبيلتين، الذي لن ينتهي بصدور أحكام بالإعدام على عدد من أبناء القبيلتين، تم تقديم نقض فيها مؤخرا!
ومن تابع هذا الحادث يعلم أنه كان يمكن التدخل لرأب الصدع قبل وقوع قتلى، لكن التقاعس الأمني عن التدخل لا تخطئ العين دلالته، ومن هنا جرت ترقية "السوهاجي" بعد هذه الأحداث، لمنصب مساعد وزير الداخلية لقطاع السجون، ولأنه بحسب كلامه السابق مكلف بمهمة تعقب الإخوان فقط، فقد شهدت السجون على يديه زيادة في التعنت، وفي التنكيل بالمعتقلين من الإخوان!
لقد ذكر الدكتور محمد البلتاجي أمام المحكمة في المرة الثانية، بعض التفاصيل التي مثلت شحنا لمخزون "الولولة"، فكان هذا دافعا لأن يمارس البعض هوايته في "الندب" التي بتنا لا نملك غيرها!
"السوهاجي" وتابعه رئيس المباحث الجنائية بمصلحة السجون، قاما باستدعاء البلتاجي، وسبه وسب دينه، وإجباره على خلع ملابسه، وإجباره كذلك على أن يجلس القرفصاء وتصويره وهو في هذه الحالة، وإذا كانت المحكمة قد وعدت بالتحقيق في هذه الجرائم، فظني أن الأمر سينتهي إلى لا شيء، لتصبح تصريحات "البلتاجي" ليست أكثر من جلسة بوح وشجن، يجري التعامل معها بوقت إضافي من "الولالة"، ثم نجلس في انتظار حالة تعذيب أخرى قد تكون للبلتاجي نفسه!
تعذيب" البلتاجي" جرى لإجباره على التنازل عن بلاغ يتهم فيه عبد الفتاح السيسي بقتل "كريمته"، الشهيدة "أسماء"، ويستهدف السيسي وأذياله التنكيل به كرمز من رموز ثورة يناير التي ألحقت الهزيمة بالشرطة، فأنتجت تشوهات نفسيه يعبر عنها "السوهاجي" وتابعه بما فعلا، وهما هنا ليسا أكثر من أدوات في يد السيسي، فهما وأمثالهما يده التي يبطش بها، في جهاز تدور عقيدته حول عبارة "أنا عبد المأمور"!
وقد تصرف القوم في وزارة الداخلية وفق هذه العقيدة: "أنا عبد المأمور"، في حكم الرئيس محمد مرسي، وبالغوا في الانحناء أمام الإخوان، وإذا كانت الثورة قد طالبت بإعادة هيكلة وزارة الداخلية، وكانت الشرطة المهزومة تستعد لذلك ومستسلمة له، وهو ما قصر فيه الإخوان، بسبب هذه الانحناءات، التي أضعفت الهمم، وكانت اللجنة الإخوانية المشكلة لهذا الهدف، عندما تزور الداخلية، فإن كل قيادات الوزارة كانوا يهرولون لاستقبالهم على "البوابة" ومن هنا دخل الشيطان، ودفعت الثورة الثمن لدخوله!
وليس صحيحا أن "البلتاجي" كان يترأس هذه اللجنة كما يروج البعض، لتبرير انتقام "السوهاجي" وتابعه منه، ولكن الصحيح أن وجوده فيها كان لمرحلة مؤقتة، وبعد ذلك كانت السطو، لمجموعة بعينها، لم نشاهدها في الثورة، ومن أهل الثقة، الذين مثلت هذه الحفاوة غواية لهم، وهم في الواقع كانوا أدوات لصاحب النفوذ في جماعة الإخوان، الذي أبعد أحد رموز الثورة من المشهد، وهو الدكتور البلتاجي ليحل محله تيار "سامحك الله يا أخي"!
وإذا كنا قد استمعنا للبلتاجي وهو يقول في برنامج تلفزيوني بعد الثورة أن شخصا قدم له نفسه بأنه "اللواء عبد الفتاح السيسي"، ويشغل موقع مدير المخابرات الحربية، جاء لينظم عملية دخول المؤيدين لمبارك ليحتفلوا به في ميدان التحرير في يوم موقعة الجمل، فقد شاهدناه ينفي في مداخلة تلفزيونية أخرى أن يكون قد قال إن اللواء عبد الفتاح السيسي هو من جاء له في الميدان، فقد قال إن الرجل عرف نفسه بأنه "اللواء عبد الفتاح" فقط دون "السيسي" وأنه في المخابرات الحربية، وليس مديرا لهذا الجهاز. فمن الذي ضغط على "البلتاجي" في الجماعة ليغير أقواله؟ ولحساب من كان يعمل؟
لا أعرف محل "السوهاجي" وتابعه من الإعراب في هذه الفترة، لكن من المؤكد أنهما كانوا من "أهل المسكنة"، فلم نسمع له تصريحا ضد الثورة أو موقفا ضد الإخوان وهم في الحكم، فقد "تمسكن حتى تمكن"، والآن جاء ليمارس دوره من حيث إنه "خدام لقمة عيشه"، وعندما كان "المأمور" من الإخوان كان عند حسن ظنه، وعندما استرد أنفاسه باستبدال "المأمور" العسكري بالإخواني، مارس ما مارسه ضد الدكتور البلتاجي، دون خجل أو وجل!
المقطوع به أن "حسن السوهاجي" استقر في وجدانه أنه لا ثورة قادمة تنتقم منه، وإذا جاءت "الطوبة في المعطوبة" وقامت الثورة، فلن تكون أكثر من "ثورة الحب الصافي"، فيكفي أن ينحني أمام من عذبهم حتى يتبخر ما في قلوبهم من غل، وهذا هو "بيت القصيد"!
فثورة الحب الصافي، على وزن أغنية عبد الوهاب "يا وردة الحب الصافي"، بلغ بها البؤس درجة أنها لم تقدم الضباط الذين تورطوا في التعذيب على مدى ثلاثين عاما للمحاكمة، وبدا الذين تعرضوا للتعذيب من أعضاء الجماعات الإسلامية في حالة تسامح، تفقد أي ثورة وهجها، وشاهدنا كيف ذهب ضابط أمن الدولة السابق فؤاد علام إلى مقر جماعة الإخوان المسلمين في يوم افتتاحه، فيستقبل على الرحب والسعة، وقبل سنوات كان الإخوان قد وجهوا له تهمة قتل "كمال السنانيري"!
المأساة تكمن في أن القوم تصرفوا على أنهم انتصروا، وينبغي أن يلتمسوا سلوك المنتصرين، وظنوا أن مكة قد فتحت، فكان قولهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، مع أن مكة لم تفتح بعد، ولم يكونوا ضحية فقط لظنهم أنها فتحت، ولكنهم ضحايا للروايات الإسلامية المبتورة، فالرسول المنتصر قال هذه المقولة يوم فتح مكة، لكن باقي الرواية لم يتم تدريسه في المدارس، فهناك من أمر الرسول بقتلهم وإن تعلقوا في أستار الكعبة!
إن ما تعرض له "البلتاجي" تعرض لمثله المرشد العام للإخوان، الذي لم تحل شيخوخته من اعتداء السفلة عليه، منبتي الصلة بكل الأخلاق والقيم الإنسانية، وهو الذي قال الإخوان في عهد مبارك إنه خط أحمر، ومع ذلك تجاوز الانقلاب كل الخطوط الحمر، فلا تهديد بمحاكمة الضباط يصدر، ولا تعقب لمحاكمتهم أمام المحاكم الدولية، ولا إعلان للقصاص العادل من الجناة، فأزمة اللائحة هي ما تشغل القوم!
ما علينا، فالمرشد يخص الجماعة، أما "البلتاجي" فهو يخص الثورة المصرية، وهذا انتقام من الثورة في شخصه، يرجع إلى أن "السوهاجي" أمن العقوبة، فاته أن الثورة القادمة لن تكون ثورة الحب الصافي، وسوف تحاكمه وأمثاله، وإن تعلقوا في أستار مكتب الإرشاد.
"ألا إن نصر الله قريب"