هل يمكن الحديث عن تغيّر قواعد اللعبة في سورية إذا علمنا أن الثابت الوحيد في مسار الصراع في سورية هو عدم وجود قواعد للعبة أصلا ذلك أن اللاعبين تتبدل أولوياتهم وتتقلب مصالحهم وتختلف أهدافهم دون وجود محددات استراتيجية باستثناء وأد الربيع العربي بملامحه الإسلامية السنيّة الذي يهدد مصالح الإمبرياليات والدكتاتوريات والطوائفيات فالفاعلين المحليين من فصائل المعارضة السورية المسلحة متنازعين ومتصارعين ويتحركون بدون استراتيجية موحدة ومرتهنين لأجندة قوى إقليمية ودولية متضاربة كما أن الدول الإقليمية التي زعمت صداقتها للشعب السوري ارتهنت على مدى سنوات النزاع للقوى الدولية والتي بدورها لم تمتلك رؤية استراتيجية لحل النزاع واقتصرت تدخلاتها على أهداف تكتيكية فأمريكا خصصت مواردها السياسية والاقتصادية والعسكرية للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية وكذلك فعلت روسيا للحفاظ على تنظيم الدولة السورية.
ربما كانت تركيا الاستثناء الوحيد بين القوى الإقليمية والدولية التي تماهت مع ربيع عربي بوجه إسلامي الأمر الذي جعلها مهددة من أعداء صريحين وآخرين متنكرين بزي الصداقة ولا عجب أن يتسامح أنصار الربيع العربي من شعوب المنطقة مع تركيا رغم مواقفها المتذبذبة من قضايا عديدة وفي مقدمتها المسألة السورية بل ويجتهدوا في البحث والتنقيب عن مبررات وأعذار للمواقف التركية حتى لو بلغت حد الاستدارة وتطبيع العلاقات مع المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية ذلك أن ثمة إدراك عميق مشترك لدى شعوب المنطقة والشعب التركي أن تركيا مستهدفة وتتعرض لحملة عقاب وإذلال وتشويه شعواء ولم تكن تلك المشاعر محض هلاوس ذهانية برانوية وحالة نكوصية عصابية فقد برهنت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في 15 تموز/يوليو الماضي على مصداق جملة المخاوف وعمق المؤامرة وسعة المتربصين.
هكذا يمكن أن نفهم التدخل التركي بتاريخ 24 آب/ أغسطس الماضي في مدينة جرابلس السورية التي كانت خاضعة لتنظيم الدولة الإسلامية هو أول تدخل عسكري تركي بري منذ بدء الصراع في سوريا والتي أطلق عليها عملية "درع الفرات" والتي لم تنج من قبل ذات الخصوم والأعداء من البحث والتنقيب عن مغزى التاريخ والمكان باستدعاء خطر الإمبراطورية العثمانية وأطماعها التوسعية باعتبار العملية تتزامن مع الذكرى التاريخية الخمسمائة لمعركة "مرج دابق" بين العثمانيين والمماليك شمال حلب والتي أسفرت عن انتصار العثمانيين ومهدت الطريق للهيمنة العثمانية على العالم الإسلامي ودوام حكمهم أكثر من 500 عام، وكأن قيام الإمبراطوريات أو إعادة إحيائها مسالة تخضع للتنجيم والاسترولوجيا وحسابات الجمّل وتنبؤات مدرسة نوستراداموس.
إن تطورات الموقف التركي الأخيرة جاءت ثمرة لتحولات تركيا الداخلية عقب محاولة الانقلاب الفاشل وتفاعلاتها مع المحيط الإقليمي الفوضوي والموقف الدولي الملتبس فقد تعاظم إدراك أنقرة بأن حلفاءها الغربيين المفترضين قد تخلوا عنها فضلا عن المحادثات المستمرة بين موسكو وواشنطن الهادفة إلى تنسيق الجهود في الحرب الأهلية في سوريا حيث تخلت تركيا عن أوهام الصداقة الغربية وأعادت النظر في موجبات العداء بين تركيا وروسيا ومبرراته الغير منطقية من وجهة نظر مصلحية خالصة كما هو الحال مع إيران فإذا كان الصديق المفترض ممثلا بالغرب عموما وأمريكا خصوصا يحرص على خطب ود تلك القوى فلماذا تفعل ذلك تركيا رغم أن المصالح التي تربط بين تركيا وروسيا وإيران لا يمكن أن تقارن بنظيرتها الغربية الأمريكية.
لا جدال أن الانقلاب الفاشل أدى إلى تعقيد العلاقات التركية ــ الأمريكية فالكثيرين في أنقرة يتشاطرون الاعتقاد بأن واشنطن تقف وراء محاولة الانقلاب ليس بسبب كون فتح الله غولن يعيش في الولايات المتحدة فحسب وأن ضباطا منحازين لغولن شكلوا الدعم الأساسي لمحاولة الانقلاب بل لأسباب أكثر جدية رغم أن أنقرة لم توجه اتهاما رسميا لواشنطن بالضلوع بمحاولة الانقلاب ورغم إصرار أمريكا على عدم تسليم غولن لأسباب واهية تفتقر لروح الصداقة المزعومة، وعلى مدى سنوات الحرب في سورية لجمت الولايات المتحدة مطالب لأتراك بإنشاء منطقة عازلة بل عملت على التحالف مع عدو تركيا اللدود وخلق كيان كردي يهدد الأمن القومي التركي عندما قررت الولايات المتحدة في 9 تشرين أول/ أكتوبر 2015 إلغاء برامج تدريب المعارضة السورية والانتقال إلى دعم الفصائل الكردية والإعلان عن تشكيل "قوات سوريا الديموقراطية" في 12 تشرين أول/ أكتوبر 2015 التي تجاوزت أهدافها التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية وتقدمت لتسيطر على سد تشرين ولتحصل على معبر إلى غرب الفرات.
على الرغم من الاحتجاجات التركية على مواقف الإدارة الأمريكية بخصوص الطموحات الكردية إلا أنها لم تتخذ مواقف حازمة منفردة وكانت تطمح بإقناع أمريكا وأوروبا بعملية مشتركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية تجنبا للمخاطرة وتحمل الكلفة في ظل حكومة "العدالة والتنمية" بنوايا بعض قطاعات "الجيش التركي" التي كانت عقيدته القتالية تتمحور حول أهداف داخلية بذريعة حماية العلمانية الأمر الذي تبدل عقب فشل المحاولة الانقلابية وبات أكثر إصرارا على استعادة سمعته الوطنية التي أصبحت موضع شك وفي حالة حرجة وبهذا تحركت قطاعات عسكرية من المدن التركية إلى الحدود التركية السورية فالعدو لم يعد داخليا ممثلا بالشعب بل في الخارج الذي يستهدف شعب تركيا.
أصبحت الرؤية التركية أشد وضوحا وأكثر حدة إذ لم يعد بالإمكان انتظار "غودو" فالحرب ضد الإرهاب لا بد أن تكون عبر الممارسات وليس الخطابات والدخول في حرب الكلمات فبحسب تركيا لا فرق بين تنظيم "الدولة الإسلامية" وحلفائه و"حزب العمال الكردستاني" وفروعه، لكن هذه الرؤية تتطلب إعادة بناء التحالفات فأمريكا لا تتوافر على رؤية مماثلة بينما روسيا تتفهم تلك الرواية ونظام الأسد ينتظر الرواية التركية الجديدة وقدم ممارسة فعلية غير خطابية بالاشتباك العسكري مع الأكراد في الحسكة للبرهنة على استعداده لبناء علاقات جيدة مع تركيا.
لقد بات واضحا لدى أردوغان أن هزيمة "حزب العمال الكردستاني" تتطلب فك الارتباط بين روسيا والأكراد الأمر الذي سوف يقوّض كذلك المكاسب الكردية في سوريا حيث يعمل "حزب الاتحاد الديمقراطي" وميليشيته "وحدات حماية الشعب" مع كل من واشنطن وموسكو لكسب المزيد من الأراضي فعلى مدى العامين الماضيين وحّد "حزب الاتحاد الديمقراطي" مقاطعتي كوباني والجزيرة في شمال شرق سوريا في إقليم واحد يعرّف باسم "روج آفا" أو كردستان السورية فهدف الفصائل الكردية من سلالات "حزب العمال الكردستاني" تحقيق حكم ذاتي للأكراد في "روج آفا".
التدخل التركي في معقل تنظيم "الدولة الإسلامية" قرب منبج في شمال سوريا سوف يعزز مصالح تركيا في تعطيل خطط "حزب العمال الكردستاني" و"حزب الاتحاد الديمقراطي" وفي حين تعتبر أنقرة أن تنظيم "الدولة الإسلامية" يشكل تهديدا فإنها تستمر في الحفاظ على نفس النظرة تجاه "حزب العمال الكردستاني" بل تعتبره أشد خطرا من تنظيم "الدولة الإسلامية" وعلى مدى أشهر رددت قيادات من "حزب الاتحاد الديمقراطي" القول بأن إغلاق منطقة جيب منبج من شأنه أن يساعدهم على توحيد مقاطعات كوباني والجزيرة وعفرين لكن في المقابل فإن السيطرة على الجزء الغربي لممر أعزاز ــ جرابلس الذي يحد منطقة جيب منبج تمكّن تركيا من منع أي خطط كردية طموحة بتأسيس إقليم متصل.
عملية درع الفرات جاءت عقب التحركات الدبلوماسية التركية سواء على الصعيد الروسي أو الإيراني أو زيادة التنسيق مع النظام السوري بفتح الطريق أمام القوات التركية للدخول إلى غرب الفرات وبدء معركة تحرير جرابلس التابعة لمحافظة حلب شمال سورية من سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" واستبقت العمليات زيارة قام بها نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي حظي باستقبال تركي فاتر وربما مهين وبالتزامن مع وجود رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني في العاصمة التركية أنقرة في رسالة واضحة إلى أن عملية درع الفرات تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية ومنع تمدد حزب "الاتحاد الديمقراطي" الجناح السوري "للعمال الكردستاني"، الذي يمثل العدو الأول للدولة التركية وللحزب "الديمقراطي الكردستاني" برئاسة البرزاني.
معركة جرابلس التي توقع البعض أن تكون عنيفة ومكلفة لم تقع فتنظيم "الدولة الإسلامية" انسحب فورا وبعث برسالة لتركيا مفادها أن الخطر الحقيقي على تركيا هم سلالات "حزب العمال الكردستاني" الذين تمتعوا بعلاقات جيدة مع كافة أعداء تركيا وهو أمر فسره أنصار نظرية المؤامرة بمسرحية تركية داعشية لكن الحقيقة تشير إلى أن تعقيدات المسألة السورية تنذر دوما ببناء تحالفات موضوعية فأعداء الأمس قد يتحولوا إلى أصدقاء اليوم وهو الأمر الذي يبدو جليا مع تبدل قواعد اللعبة التركية كما هو حال كافة أطراف الصراع باستثناء الشعب السوري الذي لا يزال ينتظر قدوم "غودو".