أحاول أن أفهم ما يجري في
مصر، وأضرب أخماسا بأسداس، وأرجم بالغيب، فثورتها الرائعة، الظريفة، الشعبية، بعرضها المسرحي الفدائي المذهل؛ أضحكت الحبالى ساعة الوضع، لكن احتكار جيشها المقدام، جيشها التاجر، المرابي، العظيم، المقدس، الجيش المرضع الذي بادر مسافة السكة وعمل مصانع الحليب كان أكثر إذهالا. الأخبار المنيلة بستين نيلة تترى: موقع عبري يقول: إن السيسي سيمنع الأذان، لن يرفع أحد الله أكبر بعد الآن، فتوى عيد الأضحى: يجوز التضحية بالطيور، الطريف أن علي جمعة صار مثل سيد قطب يؤمن بأننا صرنا في زمن الجاهلية، ويشجع السياحة بالقول: إن الطواف حول الكعبة كان قبل الإسلام والناس عراة! تعرّوا، والصحيح: تعرين أيتها النسوة، فعلي جمعة يحب السيوف مشهرة من أغمادها.
كنتُ أجتهد في فهم كيف صار رجل مثل السيسي، خنثى تقريبا، ذكرا وحيدا في أم الدنيا، وزعيما وفرعونا، وجذابا تسكر النساء لرؤيته وتحبل بنجمه، ويجتهد النجوم والحكماء وعقول مصر في مداهنته، وأحاول أن أفهم كيف انتُخب الشيخ شوقي علام مفتيا لمصر، انتخابا حقيقيا شارك فيه القرضاوي، ولعل ذلك كان لمواءمات لا بد منها، ويحتاج إلى شهادة من الناخبين، ثم سرق المفتي مقالات الشهيد سيد قطب ونشرها في صحف مصرية معروفة، وذهب شيخ الأزهر في وفد إلى غروزني ليخرج ثلاثة أرباع الملة من الملة، وأحاول أن أفهم كيف أن شيخ الأزهر الذي يقول للسيسي عبر اللحم الحي والهواء الحي: حلال حلال حلال، وقد سكر بلقب مولانا من مولاه، وأستغرب سكوت الأزهر عن أكل لحوم الحمير الأهلية المحرمة حتى شككت في أن له أسهما في بيع الحمير، وقد أكل منها أكثر من 13 مليون مصري، ويقال إن رائحة لحم الحمير- ومثلها رائحة كهنة الانقلاب- كرائحة الإسطبل، وأن أفهم سكوت الأزهر عن قتل البشر في رابعة النهار، وحرقهم، وجرفهم بالجرافات على الهواء. وللعلم: شيخ الأزهر خواجة يلبس العمة، متخرج مثل الأسد من بلاد جيمس بوند وآلان ديلون، هو صاحب الوثيقة الشهيرة، وثيقة الأزهر، فيسقط في يدي، من غير أن أعرف نتيجة ضرب الأخماس بالأسداس، فكنت أستأنس يما يجري في الهند، والتفكير في طبقاتها الصارمة، وأحيانا ينزح خيالي مسافة السكة، إلى إيران وطقوس اللطم، وأظن أن مصر تشبه الهند وإيران في أمرين، ولجأت إلى جمال حمدان، فوجدت الأجوبة عنده.
يقول حمدان: إن من أطرف الوقائع الأنثروبولوجية بعد الكشف على التماثيل والمومياوات المصرية هي ثبات النمط المصري! وإن موجات الهجرة الاستيطانية أو الغزوات كانت من الجنس نفسه تقريبا، فلم تؤثر على النمط، ويتحدث كثيرا عن عزلة مصر (7 آلاف سنة من العزلة)، وعن قدرة مصر على امتصاص الصدمات والغزوات، ويذكر مقولة هيرودوت الشهيرة عن أنّ مصر هي هبة النيل، وينتقدها ويقرُّ بها أيضا، فهي مقولة تجرد المصري من الفضل، وترد الفضل كله إلى النهر ونظامه وخصوبته. ويقف وقفة ناقد للختم العنصري على مصر شعبا وجغرافيا: الجنس المصري، والختم الجغرافي.
الجواب هو جواب الفيلسوف الألماني فيتفوجل نفسه، وهو ماركسي آبق، كان قد ربط الاستبداد باقتصاد بالنهر، فمصر بلد محجوز ومحاصر، بيئة صارمة، مصر واحة كبيرة، ضيعة كبيرة عملاقة، هي أقدم سجن في العالم، البلد الوحيد الذي لم تتغير بنيته منذ آلاف السنين، الفرعون دائما كان يتحكم بالحنفية وفيض النيل، الإرهاب الذي يحاربه السيسي الآن كان نهر النيل...! وقد وقفت الحبشة في وجهه فحارب شعبه.
وتذكرت تصريحات السيسي الذي لا يناسب العصر، وأنا أقرأ قانونا لسلفه الفرعون خيتي وهو يوصي ابنه: إذا وجدت أحدا من العامة يتكلم أكثر من اللازم فهو كارثة على المدينة. الصمت فضيلة كبرى، ترجمها ويلسون بالهدوء والسلبية، والسكون، والخنوع، والمذلة، والانكسار، اسكت عن حقك تعش، هذا هو التعايش الاستبدادي. اكتمل الطغيان الفرعوني وبلغ الطغيان المائي ذروته، وجاء مصداق ذلك في التعبير القرآني: "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى"، فرصة وحيدة نالها الشعب عبر الزمن هي عام حكم مرسي، فعملوا فيه ما عملوا، حنينا إلى الفرعون. قارن عزيزي القارئ بين سعادة حمدين صباحي أيام الانتخابات الحرة وأيام المنافسة مع السيسي وتذكر قوله: يا سيدي ويا سيسي، وابتسامته المسرحية، شيء يضع العقل بالكف. أظن أنه كان أسعد في الانتخابات الثانية مع منافس وحيد. الطبع الفرعوني يغلب التطبع.
وتذكرت أمس مجدي شندي وهو يبرر للأزهر ذهابه إلى روسيا، على فضائية الجزيرة، قائلا: إن الأزهر لم يشارك في" الافتتاحية"، ويغضب ويفقد بعضا من أعصابه وهو يسمع تغريدة آل الشيخ عن مصر، والحقيقة أنني لا أتفق معه ولا مع المختار الشنقيطي، فما يشدُّ مصر السيسي إلى الحكم السعودي أقوى مما يفرقهما، وأحيانا أميل إلى أن عدوهما واحد ويعرفه الجميع.
يقول حمدان: "إن هيكل النظام المصري ليس الفرعون وحده وإنما الذين معه، وهم ثلاثة أركان: بيروقراطية منتفخة متضخمة، وثيوقراطية متورمة، وأرستقراطية عسكرية شديدة البأس وجميعها تأكل من لحم بروليتاريا عاملة فلاحية".
(فأما البيروقراطية فهي الأساس الصلب للفرعونية، إذ تجمع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بمفهوم الماضي، فإليها تنتهي مهام ضبط النهر وتنظيم السخرة واستخراج المعادن وفرض الجباية، حتى مهندس الري كان دائما خادما للفراعنة لا خادما للفلاحين، أما رجال الدين فهم القوة المعنوية للفرعونية، وهم غلاف السكر الذي تحيط به نفسها ليسهل ابتلاع الطغيان، فهو أكبر جهاز تخديري للشعب. العسكريون هم السند الأساسي، وقد تحولوا إلى عبيد وكانوا في الماضي جيش سخرة، مسافة السكة للخارج، وظيفتهم: قمع كل انتفاضه، وكانوا سابقا يبعدون إلى التخوم، أما اليوم فهم يحفرون الترعة ويصنعون المعكرونة، وقرأت مؤخرا أن الجيش صار يبيع الخضار واللحمة...).
النظام الاقتصادي المصري هو الملكية المطلقة، بلا إقطاع ولا أرستقراطية ولا بورجوازية، التطور الأوروبي أتى من الإقطاع إلى الملكية والرأسمالية الفردية أما في مصر فجاء من الملكية ورأسمالية الدولة إلى الإقطاع معكوسا، وطبقة التجار كانت دائما ضعيفة. ويختصر حمدان القول: إن مصر تقليديا تنقسم بين فراعنة وفلاحين.
ويستشهد بأوفرير الذي قال: (إن المعابد الضخمة تشير إلى قوة كهنتها، والمقابر الهائلة إلى سطوة فراعنتها وليس سوى الملكيات المطلقة في مصر)، إنه جيش عنده دولة مثل إسرائيل حاليا، ويقول حمدان: إنّ الأهرام وهو عقيم اقتصاديا، ما هو إلا نصب تذكاري هائل للطغيان.
وتذكرت وأنا أقارن بين ثورة مصر وثورة سوريا، أن السوري صرخ: حرية للأبد غصبا عنك يا أسد. أما المصري فكان شعار ثورته: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية". السوري كان يصرخ يا بثينة يا شعبان الشعب السوري موجوعان.
وجد الشعب المصري أخيرا من يحنو عليه، لكن الحمير، التي كانت للركوب، صارت طعاما... وحكاما.