(1)
قبل احتدام أزمة التفريط في تيران وصنافير، طرحت مبادرتي عن ضرورة تأسيس سلطة مرجعية فوق السلطات المصرية المتحللة وهي بحكم الدستور "سلطة المواطنة"، وكانت الفكرة أن نجمع عدة آلاف من المؤمنين بالفكرة من كل التيارات، ويتم انتخاب مجلس تأسيسي يصنع لهذه السلطة آليات تضمن لها تأثيرا مباشراً في صنع القرار السياسي، بحيث لا تظل المواطنة مجرد شعارات نظرية للخداع والتسكين، ولما تسرب خبر إقدام البرلمان على مناقشة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر السعودية والتي تتضمن التنازل عن تيران، شرعت في تأسيس مجموعة اليكترونية تحت شعار "لن نفرط" آملاً أن تكون أول تطبيق عملي للخروج من أسوار الحزبية والفئوية إلى فضاء العمل الوطني العام، ولما كان متوقعاً أن تنشط الكتائب الاليكترونية للنظام ي لمحاولة اختراق المجموعة وبثت الفتن بين أعضائها، والسعي لتخريبها بافتعال مشاحنات وإثارة ملفات الخلاف القديمة، حرصت إدارة المجموعة على بقائها "مغلقة" حتى تصل إلى عدة آلاف من الأعضاء.. يتمكنون من مواجهة الدس والتخريب الذي ستمارسه عناصر الكتائب الأمنية.
(2)
خلال أيام قليلة نجحت المجموعة في ضم أطياف سياسية واجتماعية متنوعة، وعدد غير قليل من الأسماء الكبيرة في السياسة والاقتصاد والفن والأدب، وتمكن الأعضاء من تجاوز الدسائس الساذجة والمشاحنات التي يسهل اكتشافها كألاعيب أمنية، حتى ظهرت الثغرة التي هددت بانفجار المجموعة من داخلها، وهي الخلاف على وجود الإخوان في أي عمل سياسي، بل وعلى ووجودهم كاعضاء داخل المجموعة، وبدأت البوستات المشبوهة تهدد بتمثيليات الإنسحاب مع سيل من الشتائم والبذاءات، سرعان ما تحولت إلى صراع ناصري إخواني، وصل إلى حد دخول شخصيات محترمة وعاقلة ومعروفة واقعيا كمحاربين راديكاليين في هذه المعركة، وفشلت لغة التهدئة وشعارات العمل الوطني في إنهاء هذه المعركة المفتعلة، لأنها بدأت تتحول إلى معركة واقعية، ساهم فيها كل طرف بانتصاره لكرامته وتاريخه وموجها الاتهامات بعنف للطرف الآخر، حتى اتهمني بعض الناصريين بأنني أجامل الإخوان على حسابهم، بينما رأى الإخوان أنني أحذف كل ما يدافع عن وجهة نظرهم، منحازا للمشاركات التي تشيد بوطنية الزعيم ناصر، ومن هذا الموقف الدرامي أعلنت عن بدء حوار مع كل الأطراف، على أن ابدأ بالناصريين، وكنت أنوي كتابة ملاحظات صغيرة، لكن الموضوع طال.. فقلت لنفسي لماذا لا أكتب "البوست" كمقال عام أنشره هنا، لعرض القضية على الجمهور الواسع بدلا من طرحها في مجموعة مغلقة، ولنتابع نتائج التجربة كقياس لمدى واقعية فكرة "سلطة المواطنة" في مجتمع تحول باعتراف قادته إلى أشلاء و"شبه دولة".
(3)
إلى إخوتي الناصريين: أبدأ اليوم خطوة لابد منها، وهي فتح باب الحوار المباشر مع كل تيار، وأبدأ بكم لأنني قضيت معظم عمري بينكم، هذا لا يعطيني الحق في الوصاية أو إملاء رأيي، لكنه ينبع من حق الحوار وتفهم وجهات النظر (وهو الأمر الذي يفتقده المجتمع كله)، وأبدا بحكاية من بدايات عمل السياسي في الجامعة، كان السادات قد أخرج الإخوان من السجون، وبدأ عملية تمكينهم لمواجهة اليسار، ثم بدأت مهمة تجميع المجاهدين لأفغانستان، وحصلت لخبطة بين الإخوان والجماعة الإسلامية، وبقايا الجهاد، وبشائر السلفيين المدعومين سعوديا، ولما اغتيل السادات ظل الحال برغم التنكيل الأمني بالجهاد والجماعة الإسلامية، وكانت العناصر التي تهاجم معارضنا وتمنع حفلاتنا في الجامعة من جماعات الاسلام السياسي، وليس من الأمن، ومع ذلك لم ننزلق لمبادلة العداء بالعداء أو الرد على العنف بعنف!
(4)
في ذلك الوقت كنا ناصريين رومانسيين ضد اتجاهين تقليديين في الناصرية.. الأول هو اتجاه رجال حكم عبد الناصر الذين يرون أن الناصرية دفاع عن ميراث عبد الناصر كحاكم، ويتصورون أنفسهم طوال الوقت بمراتبهم ومناصبهم في دولة عبد الناصر، بينما كنا نردد بثورية بريئة: اننا لو عشنا تحت حكم عبد الناصر لكنا على يساره، بل داخل السجون ولسنا في أي مناصب... هذا يعني أن نظرتنا للثورة أكبر وأنقى من أي نظام حتى نظام ناصر، وكنا نستعيد أمنية لعبد الناصر من أجواء مناقشاته مع جيفارا، تشير إلى رغبته في اعتزال الحكم كرجل دولة، ويتفرغ كرجل ثورة، لكن هذا لم يحدث لأسباب يطول شرحها.
وكان الاتجاه الثاني الذي نرفضه هو "ناصرية المناكفات" ومعارك التنابذ بالماضي، وهذه كان يمثلها أناس طيبون مثل الصحفي عبد الله إمام (رحمة الله عليه)، الذي جعل من الناصرية "خناقة" مع برلنتي عبد الحميد حول انتحار المشير عبد الحكيم عامر أو قتله؟ ثم صراع "توم وجيري" مع الإخوان، والدخول في قصص وحواديت عن صراعات الماضي التي لا تسهم في المستقبل بقدر ما تكرس الكراهية والتقسيم النفسي لدولة كانت تطمح قبل عقدين فقط لتذويب الفوارق وتنظيم تحالف قوى الشعب، وطبعا كانت هذه النظرة الضيقة للناصرية تركز على تجربة حكم عبد الناصر، وليس على أفكاره الثورية وانحيازاته الاجتماعية واستقلاله السياسي، ومع شرعية أول حزب ناصري، دخلنا مصيدة العمل الحزبي، ولم أكن في أي يوم جزء منها، فقد التزمت بالفكر الاجتماعي والسياسي لثورة يوليو، وتركت العمل الحزبي.
(5)
قبل ذلك بقليل، فكرنا كجماعة ناصرية شبابية (بوعي وطني وسمو أخلاقي) في تجاوز الصراع التاريخي مع الإسلاميين، وكانوا قد خرجوا من تحت عباءة الدولة، وتحولوا إلى ضحايا للنظام مثلنا، وشرعنا في ذلك، ولازالت لدينا اجتهادات نظرية منشورة، وخطوات حركية على طريق المصالحة بين العروبة والإسلام، وجولات من الحوار السياسي، انتهت في منتصف التسعنات بورقة "نداء الكرامة" التي تتمحور حول مبدأ "الوطنية الجامعة".. وكان الأمل أن يلتقي تحت راية "الكرامة" كل ذي فكر وطني من السار واليمين، لكن الأمراض السياسية نالت من الجميع، وسيطرت المفاهيم الحزبية على المفاهيم الوطنية، ورأينا كيف سقطت شخصيات ناصرية بارزة في الوحل والتبعية لأنظمة كامب ديفيد، وبالتالي تلوثت الحركة الناصرية بتاريخ غير مشرف من جانب قطاع انتهازي مخجل من أمثال مصطفى بكري وسامح عاشور، وغيرهم، وهذا السقوط لم يكن بعيدا عن كل التيارات، لكن الانحياز للمبادئ الوطنية كان يحمي المخلصين المتمسكين بالوطن وجموع الشعب الكادح.
(6)
يبقى السؤال: من يقود الحراك الوطني نحو فكرة تكوين شعب وبناء وطن للجميع؟ وهل يتصور أي ناصري عاقل أنه يمكن تحقيق مشروع ثوري وطني بدون الإسلاميين؟ وهل يؤمن الناصري مثلا أن عبد الناصر كان معاديا للإسلام والمسلمين، وهل كان يستخدم الصراع مع تنظيم سياسي لإقصاء قطاعات من الشعب؟..
هذه أسئلة عويصة، وأظن أن معظمنا يخطئ في الإجابة عنها، فالناصرية كما أفهمها هي الوطنية الجامعة، وفيها متسع للشعب العربي كله، وتخيلوا مقولة مثل "تنظيم قوى الشعب العامل".. هل هي مقولة حزبية؟.. وهل تستثني فئات من الوطن لصالح فئات أخرى؟
(7)
مازال في الرسالة مزيد من التفاصيل، لكنني أكتفي بهذا القدر لتجاوز مساحة المقال، وقد أعود لا ستكمال ذلك في مقالات لاحقة إذا هدأت وتيرة الصعقات التي تلاحقنا بها "صفقة القرن"، وفي الختام أقول لكم يا أخوتي الأعزاء إن سؤال الوطن ليس سؤال من ينتصر فينا على الآخر؟، ولكن كيف أضم جهدي على جهدك لننتصر سوياً على أعداء الوطن المتربصين بنا، وفي هذا المجال فإن من يصلح للقيادة، هو من يتنزه ويرتقي ويسمو على الصغائر لتظل التحديات الكبرى أمام عينيه.. لا يضل عنها.