أطلق الأردن الرسمي مجموعة رسائل سياسية خشنة أثارت غضب الكيان
الإسرائيلي، في الوقت الذي يتم الحديث فيه عن صفقة القرن في تصفية القضية
الفلسطينية، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط وتكوين ناتو شرق أوسطي لمواجهة إيران، ماذا تعني تلك الرسائل؟ ولماذا أطلقها الأردن في هذا الوقت الذي يشهد الحديث عن أكبر صفقة سياسية سيشهدها الشرق الأوسط؟
(1) رسائل سياسية خشنة
الحنق الإسرائيلي واضح من الأردن، إذ وصل الأمر أن كتبت الصحافة الإسرائيلية أن الأردن وضع في فم إسرائيل القش، وأن الدبلوماسية الأردنية تستثمر القدس للتهديف ضد إسرائيل ديبلوماسيا، في الوقت الذي يستمر فيه الأردن في إطلاق رسائل سياسية خشنة أثارت غضب الكيان الصهيوني، حيث جاءت هذه الرسائل تباعا وبمدة أقل من بضعة شهور على النحو التالي:
• إطلاق سراح الجندي أحمد الدقامسة: إذ قامت السلطات الأردنية يوم الثالث عشر من آذار/ مارس الماضي بالإفراج عن الجندي الأردني المسرح أحمد الدقامسة، بعد أن أمضى بالسجن 20 عاما. الدقامسة الذي كان قد قتل مجموعة من الطالبات الإسرائيليات في ربيع عام 1997 في منطقة الباقورة الأردنية، بعد ثلاث سنوات من اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل (معاهدة وادي عربة)، قُدم لمحاكمة عسكرية وحكم عليه بالمؤبد، والذي يعني السجن مدى الحياة في القانون الأردني، إلا أن القانون أعطى مجلس الوزراء الحق في الإفراج عن المحكوم بالمؤبد إذا ما ثبت حسن سيرته وسلوكه، عليه بعد قضاء 25 سنة سجنا، وهذا ما تم للدقامسة فعليا حيث قررت الحكومة الإفراج عن الجندي بعد أن قضى 25 سنة في السجن والتي تساوي 20 سنة سجنا فعلية، وهو قرار أغضب الصهاينة إلى الحد الذي نادت به الصحافة الإسرائيلية صبيحة الإفراج عن الدقامسة بتصفيته واغتياله.
• صدور الإرادة الملكية بإعادة الطيار الحربي مجدي الصمادي إلى الخدمة العسكرية، بعد أن تم تسريحه من الخدمة في عام 2015 إذ كان قد رفض الذهاب إلى إسرائيل لحضور دورة تدريبية، حيث جرى تسريح الضابط الطيار الصمادي من الخدمة العسكرية مع حرمانه من كافة حقوقه، بعد تعليقه بأنه التحق بالخدمة لمقاتلة الصهاينة لا التعاون معهم. تصرف الصمادي قرأته الجهات المختصة على أنه رفض للتطبيع من قبل أفراد المؤسسة العسكرية الأكثر ولاء للقيادة السياسية، قبل أن تصدر إرادة ملكية بإعادة الصمادي إلى الخدمة العسكرية بعد تسريحه، كرسالة سياسية إلى اليمين الإسرائيلي بانزعاج الأردن الرسمي من ممارساته، وخصوصا في القدس والمسجد الأقصى.
• استقالة الوزيرة الأردنية السابقة ريما خلف، التي كانت تشغل منصب الأمين التنفيذي لمنظمة "إسكوا"، خلال مؤتمر صحفي عقدته في بيروت في شهر آذار/ مارس الماضي، بعد مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لها؛ بسحب التقرير الذي يدين إسرائيل، وهو تقرير خلص إلى أن إسرائيل تمارس الفصل العنصري تجاه الشعب الفلسطيني بأكمله.. تقرير تبرأ منه الأمين العام للأمم المتحدة بعد أن احتجت عليه إسرائيل. فقد شكلت استقالة ريما خلف الوزيرة الأردنية رسالة سياسية لإسرائيل بأن الأردن غير راض عن الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني؛ بشكل أحرج الكيان الإسرائيلي في المحافل الدولية.
• سماح السلطات الأردنية باستقبال جثة الشهيد سعيد العمرو، المواطن الأردني الذي استشهد في القدس بعد أن حاول طعن أحد أفراد الشرطة الصهيونية، حيث تم نقل جثمانه إلى عمان وبعدها تم تشييعه في مدينة الكرك جنوب الأردن، حيث العشائر الأردنية الأكثر ولاء للقيادة الأردنية، بجنازة شعبية حاشدة أرسلت رسائل إلى الكيان الصهيوني اعتبرها الكيان الصهيوني استفزازا لمشاعره. كما حمل الأردن إسرائيل في أيار/ مايو من هذا العام؛ مسؤولية مقتل المواطن الأردني محمد الكسجي في القدس، بعد أن قام بمحاولة طعن أحد أفراد شرطة الكيان الصهيوني، حيث صرح الناطق الإعلامي للحكومة الأردنية بأن "القوة القائمة بالاحتلال" تتحمل المسؤولية عن إطلاق النار على المواطن الأردني في القدس المحتلة، مطالبا بالكشف عن ملابسات الحادث.. وهو تصريح أثار رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو للرد على الحكومة الأردنية، طالبا منها عدم الازدواجية في المعايير، ومطالبا إياها بإدانة الإرهاب كما تدين إسرائيل الإرهاب في عمان.
• الجهود التي بذلها العاهل الأردني لدى الإدارة الأمريكية في تأجيل نقل السفارة الأمريكية للقدس، والتي أسفرت عن تأجيل ترامب لقرار نقل السفارة رغم وعوده الانتخابية المتكررة بذلك، بعد أن استمع إلى العاهل الأردني، وأدرك خطورة الخطوة على المنطقة المضطربة أساسا.
• إدانة الحكومة الأردنية هذا الأسبوع إغلاق المسجد الأقصى، وتأكيدها رفضها أي اعتداء على حق المسلمين في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية من دون أي إعاقات.. تصريح تمت قراءته على أنه رسالة غير إيجابية في وجه اليمين الإسرائيلي الذي أغلق المسجد الأقصى بعد استشهاد ثلاثة شبان فلسطينيين ومقتل اثنين من الجنود الصهاينة في اشتباك مسلح في الحرم القدسي الشريف، فردت عليه الإدارة الإسرائيلية بأن إسرائيل ترفض البيان الأردني بشأن ما جرى في المسجد الأقصى.
(2) معالم خفض جناح لصفقة القرن
بدأ الحديث يتسرب إلى الإعلام حول صفقة القرن في الشرق الأوسط والتي سوف يدشن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العمل بها في خريف العام الجاري، والتي تقوم ملامحها الأساسية على النحو التالي:
• تشكيل حلف عسكري تكون إسرائيل جزءا منه لمواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، وإخراج إسرائيل من دائرة العداء العربي.
• حل القضية الفلسطينية بإقامة اتحاد فيدرالي بين
الضفة الغربية والأردن، بحيث تصبح الضفة الغربية جزءا من الدولة الأردنية، كما كانت في وحدة الضفتين عام 1950، مع ضرورة تبادل الأراضي مع إسرائيل، بحيث تصبح الضفة تابعة للحكومة المركزية في الأردن بحكم فيدرالي.
• إقامة نظام كونفيدرالي بين غزة والدولة المصرية، وذلك بتوسيع غزة جغرافيا في رفح المصرية، وإعطائها مساحة أكبر في البحر المتوسط لتصبح قابلة للحياة، وإخضاعها لتحالف كونفيدرالي مع الدولة المصرية، على أن تكون غزة هي الدولة الفلسطينية التي يجري الحديث عن ضرورة إقامتها.
• إقامة تطبيع كامل للعلاقات بين إسرائيل وجميع الدول العربية، والبدء في مشروع السلام الاقتصادي الذي يتحدث عنه الصهاينة باستمرار.
الأردن الرسمي كان يرفض أي حديث حول اللجوء للفيدرالية أو الكونفيدرالية مع الضفة الغربية قبل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلا أنه في السنة الأخيرة أرسل مجموعة من الرسائل يمكن قراءتها على أنها بدء تعاطي الأردن مع هذا الطرح، تتثمل بالتالي:
• قدوم السيد هاني الملقي على رأس الحكومة الأردنية، والذي تربطه علاقة بالكيان الصهيوني، حيث شغل منصب ممثل الأردن في اللجنة المشرفة على تنفيذ بنود معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994.
• زيارة رئيس الوزراء الأسبق عبد السلام المجالي إلى الضفة الغربية، وحديثه في الخليل عن الفيدرالية بين الأردن والضفة الغربية.
• تعاطي الأردن مع محمد دحلان، المدعوم من قبل قوى عربية ليكون زعيما للشعب الفلسطيني في مرحلة ما بعد عباس.. دحلان الذي توالت تصريحاته بأنه يقبل بما يراه الأردن مناسبا بخصوص القضية الفلسطينية.
(3) كيف نفهم تلك الرسائل المختلفة في المضمون؟
يمكن تفسير تلك الرسائل الخشنة التي يرسلها الأردن والتلميحات والإشارات الأخرى التي تتعاطى مع ما يعرف بصفقة القرن على النحو التالي:
الفرضية الأولى: أن الأردن يريد أن تبقى له اليد العليا في إدارة ملف المسجد الأقصى والإشراف عليه وعلى أوقاف القدس، دون أن تؤثر أي تطورات أو صفقات سياسية في هذا الحق، والذي يعني للنظام شرعية دينية للعرش الهاشمي.. حق أُعطي للأردن بموجب القانون الدولي الذي اعتبر الأردن آخر سلطة محلية مشرفة على تلك المقدسات قبل احتلالها من جانب إسرائيل، وكذلك أكد الأردن في اتفاقية وادي عربة عام 1994 على حق الوصاية على المسجد الأقصى، وكذلك اتفاقية عباس مع العاهل الأردني في عام 2013، والتي أكدت وصاية الأردن على القدس وحمايته.
الفرضية الثانية: أن الأردن متخوف من الاتحاد الفيدرالي مع الضفة الغربية قبل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إذ يعني ذلك أن ينضم ثلاثة ملايين فلسطيني إلى الشعب الأردني، ما يجعل السكان الأصليين الأكثر ولاء للعرش الملكي أقلية، كما أن الأردن قلق من التركيبة السكانية المسيسة لأهل الضفة الغربية، والتي تشهد انقساما طوليا بين التيار العلماني الفتحاوي والتيار الإسلامي الحمساوي، ووجود التنظيمات المسلحة، إضافة إلى العبء الأمني الكبير الذي سوف يرثه الأردن في ضبط الحدود بين الضفة وإسرائيل. كما أن الأردن قلق جدا من موضوع إلغاء حق العودة، والذي يعني أن الأردن سيكون وجهة لكل اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين في لبنان وسوريا والعراق.
الفرضية الثالثة: أن الأردن يريد من هذه الرسائل أن يحسن من شروط التفاوض والمكاسب الأردنية مقابل تمرير صفقة القرن بحيث يصبح الأردن دولة قابلة للحياة اقتصاديا، بعد تدفق المكون الفلسطيني وتوسعها جغرافيا وأن يأخذ الأردن بعين الاعتبار كل تلك التخوفات من موضوع الفيدرالية، وكل ما يريده هو تعويضات مالية سخية تعالج كل الاختلالات المترتبة على الاتحاد الفيدرالي بين الأردن والضفة الغربية وتُخرج الأردن من أزمته الاقتصادية الخانقة.
أيا ما تكن تلك الفرضيات الأقرب لتفسير السلوك الأردني تجاه إسرائيل قبيل البدء في ترتيبات صفقة القرن، إلا أن الحقيقة السياسية الثابتة أن الشعب الأردني والشعب الفلسطيني هما الغائبان عن كل ما يجري بشأن ترتيبات تقرير مصيرهما ومستقبلهما من قبل دول المنطقة والدول الكبرى.