وسط الحديث عن محاولات نظام الانقلاب العسكري في مصر؛ إخلاء جزيرة الوراق، في نهر النيل غرب القاهرة، من سكانها بدعوى عدم ملكيتهم لأراضي الجزيرة، عاد إلى الواجهة الحديث حول تعديات رجال القضاء والداخلية والمخابرات والأجهزة السيادية على أراضي الدولة.
ومنذ الانقلاب العسكري منتصف 2013، كشفت وثائق رسمية وتقارير حكومية عن مخالفات تخصيص أراض للدولة قدرت قيمتها بمليارات الجنيهات، إلى جانب بلاغات رسمية بتلك المخالفات وقضايا بالمحاكم تم التغاضي عنها أو غلق ملفاتها.
تقرير جنينة
وكان الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، قد أكد في تقرير رسمي أن تكلفة الفساد بمصر تجاوزت 600 مليار جنيه (68 مليار دولار) بين عامي 2012 و2015، وهو التقرير الذي تم حظر نشره وإتلاف نسخه بالجهاز الحكومي، لما يحمل من اتهامات بالفساد لأجهزة سيادية.
وإثر هذا التقرير، تم التخلص من جنينة بإقالته في حزيران/ يونيو 2016، وأحيل للمحاكمة، مع اتهامه من قبل جهازي الرقابة الإدارية والأمن الوطني بتضخيم حجم الفساد، وهو ما أرجعه جنينة لكشفه مخالفات الجهازين.
وفي حوار لجنينة مع صحيفة "المصري اليوم"، في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، قال إن مخالفات وزارة الزراعة بلغت 300 مليار جنيه، بسبب الخلل في تخصيص الأراضى، وإهدار ثروات الدولة لصالح فئات معينة، مؤكدا أن هناك مخالفات داخل الأجهزة السيادية، رافضا إعلان تلك المخالفات خوفا من اتهامه بإسقاط هذه الأجهزة أو المساس بأركان الدولة.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2014، انتقد المستشار جنينة، في حوار لصحيفة "الوطن"؛ حفظ النيابة العامة التحقيق في مخالفات أراضي "الحزام الأخضر"، الذي يحيط بالمدن الجديدة، وحفظ 200 بلاغ باعتداءات على المال العام.
وكشف جنينة عن مخالفات تخصيص مساحات شاسعة بالأمر المباشر وبأسعار زهيدة؛ لأفراد وشركات دون وجه حق، مؤكدا أنه تم تقسيم تلك الأراضي بين النيابة العامة ونادي القضاة والرقابة الإدارية وشركات تابعة لجهات سيادية ومسؤولين سابقين وحاليين بالدولة.
وفي حوار له مع جريدة "روزا اليوسف" في آذار/ مارس 2014، كشف جنينة عن قضايا الفساد التي طالت مؤسسات سيادية في الدولة، وعدد من الوزارات.
تهدم هنا وتدلل هناك
ذلك التناقض في تنفيذ القانون بحق فقراء جزيرة الوراق، وتجاهل فساد الكبار؛ استفز الكاتب الصحفي محمود سلطان، وقال في مقال له الثلاثاء بجريدة "المصريون": "الدولة التي تنفذ القانون بالوراق، وتهدم البيوت بزعم إزالة التعديات؛ هي ذاتها التي تدلل وتدلع رجال أعمال معروفين، استولوا على مساحات واسعة من أراضي الدولة، تُرجمت إلى مليارات، بحساباتهم البنكية"، على حد قوله.
وأضاف: "الدولة التي تنفذ القانون بالوراق، عاقبت المستشار جنينة بالطرد من وظيفته وبحبسه؛ لأنه كشف بالمستندات استيلاء كبار باشاوات الدولة، على أراض تقدر بـ600 مليار جنيه، ولم تقل لنا ماذا فعلت في هذا الملف ولا بالبلاغات التي قُدمت للنائب العام".
البداية من الكبار
أما رئيس تحرير جريدة الأهرام السابق، أحمد النجار، فقال عبر صفحته في فيسبوك: "أنا مع حماية النيل وممتلكات الدولة والمحميات الطبيعية واحترام أحكام القضاء، والبداية الصحيحة تكون بإزالة تجاوزات كبار الرأسماليين والمحاسيب قبل أي أحد آخر".
وأضاف: "ولتخبرنا الدولة المتجبرة على الفقراء بالوراق ماذا فعلت إزاء تجاوزات وقصور وفنادق ومنتجعات مليونيرات الانفتاح والمحسوبية على الجزر النيلية والمحميات الطبيعية وأراضي الدولة والأراضي التي تم الحصول عليها بمقابل رمزي للاستثمار الزراعي وتم تغيير استخدامها للاستثمار العقاري الفاخر، ولتخبرنا عن المعايير والكيفية التي يتم بها توزيع أراضي الشعب على المستثمرين وأجهزة الدولة"، كما قال.
خصوم الدولة الحقيقيون
من جانبه، أكد الكاتب بملحق صحيفة الأهرام الاقتصادي، إبراهيم نوار، أن "تطبيق القانون يجب أن يتم بحق القوي قبل الضعيف"، موضحا أن "هيبة الدولة لا تتحقق بسحق الضعفاء وإهدار حقوقهم".
وقال نوار لـ"عربي21"، إن "خصوم الدولة الحقيقيون هم الذين يتاجرون بالقانون ويحتمون بفساد النظام الإداري"، في إشارة إلى كبار رجال الدولة الذين تحدثت عنهم التقارير الرقابية.
وأوضح أن "استرداد أراضي الدولة لا يعني نزع وإزالة الجدران والأسقف التي يستظل بها من لا ظل له"، مشيرا إلى أن "الدولة في موضوع الأراضي تلجأ للتصالح في أحوال كثيرة، وكان الأولى بها أن تقدم للفقراء بدلا من أن تأخذ منهم أو تعاقبهم".
وأضاف نوار: "الآن يبدو أن بعض أجهزة الدولة أصبح لها ثأر مع أهالي الوراق، وهناك تحريض ضد الأهالي مبطن أو مكشوف من عدد من الإعلاميين المرتزقة الذين يتعيشون من الأكل على كل الموائد"، وفق تعبيره.
لا دولة ولا قانون
وأكد الكاتب والمحلل السياسي عامر عبد المنعم، أنه "لا يختلف أحد على أن تطبيق القانون حق وواجب وحماية أراض الدولة أيضا؛ ولكن أن يطبق القانون بحد السيف على الفقراء ويستثني الكبار من كل الفئات، فهذا يعني أنه لا قانون".
وفي حديثه لـ"عربي21"، تعجب عبد المنعم من محاولة النظام "إلقاء آلاف الساكنة منذ عشرات السنين من بيوتها في الوراق بحجة تنفيذ القانون؛ والهدف بيع الأرض للأجانب، وبالمقابل عدم تطبيق القانون على كبار الضباط والقضاة والأجهزة السيادية ممن ذكرهم هشام جنينة في تقريره".
وأكد أن "دولة تتعامل باذدواجية مع مواطنيها وتفرق بينهم ليست دولة"، مضيفا: "لكي نكون دولة قانون يجب أن نحترم نصوصه وتطبق بلا تفرقة".
وأوضح أن "القانون والدولة يجب أن يكونوا لخدمة المواطن وليس سحقه"، مستبعدا أن "نصبح دولة عدل وقانون ومساواة"، كما قال.