ليست هناك ضرورة لإعادة استكشاف أسباب أزمة المسجد الأقصى، ولا للمزايدات في هذا الشأن. كلهم يعرف نيات الاحتلال ودوافعه ورهاناته. خمسون سنة مضت على حرب الأيام الستة السوداء، ولا تزال القدس باقية في وجدان محبي السلام في العالم، وما القدس بلا الأقصى؟
وبما أننا نحيي هذه الأيام ذكرى الراحل غسان كنفاني، فلا بأس أن نستعير قوله: «قد لا نكون الجيل المهيأ لتحقيق النصر، لكننا نعدّ الجيل القادم لذلك»، وهذا امتداد لفرضية (أو اعتراف باحتمال) طول الصراع، باعتبار أن جيلا واحدا قد لا يكفي لحسمه، أو كما يقول محمود درويش: «لا ليل يكفينا لنحلم مرتين».
وقياسا إلى السنوات الخمسين التي مرت على الاحتلال وحريق الأقصى، فإن النكبة تكاد تمر على جيل ثان وقد يتلقفها جيل ثالث من دون أن تمتلك الأمة شروط تحقيق النصر ومقوماته والظرف المناسب له. لكن بما أن الاستسلام لم يكن يوما أمرا واردا، فإن المطلوب دوما هو دعم صمود الصابرين الرازحين تحت الاحتلال ويعانون يوميا من ممارساته.
تكررت كثيرا مقولة أن «القضية ليست في قوة الإسرائيليين بل في ضعفنا نحن»، وكلمة ضعف يراد بها هنا أن تعبّر عن أشياء كثيرة في آن، من بينها الانقسام واللامبالاة والتخاذل وسواها من الأسباب. لكن في المقابل، هناك ظواهر مشرقة تواكب صمود المقدسيين، وصبرهم وإصرارهم، إضافة إلى تضامنهم الذي تجلى بأبهى حلله في وقوف ذلك الشاب المسيحي نضال عبود مع المصلين خارج الأقصى يوم الجمعة الماضي، ما يجعل المرء يتمنى لو أنه كان هناك أكثر من نضال، ليثبتوا للعالم أن القضية لم تكن يوما نابعة من انغلاق وتطرف بل من حق وإرادة في العيش بسلام، ويستحيل أن تنتصر ما لم تكن كذلك.
ومن الظواهر الإيجابية، الاتصال بين وزيري الخارجية التركي والمصري بعد انقطاع، وهو تطور يأتي لمساندة المدافعين شبه العزّل عن الأقصى والذين يواجهون بصدور عارية آلة حرب إرهابية شرسة، كما واجهوها طيلة السنوات الخمسين الماضية، ومن حقهم على إخوتهم في الدول المجاورة، أن يساندوهم بالموقف والسياسة وبتوفير السبل الكفيلة بدعم صمودهم في أرضهم ومنازلهم.
في الوقت ذاته، فإن من المبالغة الحديث عن «صمت دولي» عما يجري في المسجد الأقصى، فكل المؤشرات تفيد بأن الدول الكبرى مدركة تماما خطورة انفجار الوضع في تلك المنطقة البالغة الحساسية دينيا وكذلك تمدد المواجهات إلى أنحاء القدس والضفة الغربية، وهذا ما تنذر به حوادث في أماكن مختلفة منذ يوم الجمعة الماضي. ولذلك أتت الاتصالات التي أجراها البيت الأبيض مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بالتزامن مع المشاورات على مستوى مجلس الأمن و «الرباعية» ووزراء الخارجية العرب، لنزع فتيل التوتر.
وتعكس الاتصالات التي يجريها البيت الأبيض، قدرا كبيرا من الجدية، إذ يقودها جاريد كوشنر صهر الرئيس ويعاونه المبعوث الأمريكي جاسون غرينبلات والسفير لدى إسرائيل ديفيد فريدمان والقنصل العام الأمريكي في القدس دونالد بلوم. وثمة إجماع لدى المراقبين على أن واشنطن تستهدف حفظ ماء الوجه بالنسبة إلى تل أبيب التي لم تعد تجد سبيلا أمامها إلا التراجع عن إجراءاتها التي تمس حرمة الأقصى وسيادته.
أما الممانعة التي تبديها بعض الأجهزة الإسرائيلية في مواجهة تفكيك البوابات الإلكترونية والكاميرات المستحدثة في مداخل الأقصى، فلا تستقيم مع تأكيدات تلقتها «الرباعية» من نتنياهو حول «التزام واحترام الوضع القائم في الأماكن المقدسة». تدرك تل أبيب أن انفجار الوضع سيكون كفيلا بتحقيق تضامن استثنائي في العالمين العربي والإسلامي، ومن الجنون المخاطرة بذلك.
الحياة اللندنية