ماذا يمكن أن يقال عندما يطلب منك تشخيص أوضاع حقوق الانسان وحالة الديمقراطية في
العالم العربي في دقائق معدودات؟ هذا ما حدث معي في مؤتمر دولي عقد خلال الأسبوع الماضي بمنتج البحر الميت، وذلك بمبادرة من منتدى سياسة التنمية التابع للاتحاد الأوروبي.
تجدر الاشارة إلى أنه بعد هزيمة 1967 انطلق في العالم العربي جدل واسع حول الأسباب العميقة التي أدت الى ذلك الانهيار العسكري السريع أمام الجيش الإسرائيلي. ففي فترة قياسية تسقط ثلاثة جبهات كأوراق الخريف، فتغيرت خارطة المنطقة منذ تلك اللحظات الرهيبة.
من تداعيات ذلك المنعرج التاريخي أخذ يتشكل خطاب عربي نقدي لم يعد يفصل بين التقدم الاقتصادي والسياسي والعلمي من جهة، وبين الديمقراطية وحقوق الإنسان من جهة أخرى.
الديمقراطية كبديل عن الاستبداد بمختلف أشكاله ولافتاته ودعوة إلى إعادة الدولة ومراجعة علاقاتها بالمجتمع وبالفرد. أما
حقوق الإنسان فهي تعكس الرغبة العميقة في تأسيس الممارسة السياسية على قيم الحريات والحقوق واعتبارهما شرط لازم لا يجوز إسقاطه مهما كانت مبررات الهيئات الحاكمة.
رغم المآل الدرامي الذي آلت إليه أغلب تجارب المسارات الثورية في العالم العربي باستثناء الحالة التونسية، إلا أن ذلك لا يمكنه أن يلغي القول بأن الحركات الاحتجاجية التي حصلت في عديد البلدان العربية لم تكن فقط نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية نتيجة الفساد وعقم السياسات الاقتصادية، ولكنها كانت أيضا تحمل في طياتها وتعبيراتها تطلعات ذات مضامين ديمقراطية وحقوقية واضحة. وهو ما يؤكد أن الخطاب الديمقراطي والحقوقي الذي بدأ يتشكل في الساحة العربية قد مهد لهذه الحركات الاحتجاجية قبل أن تصطدم بالقوى المضادة المتمسكة بأنماط الحكم السابقة وما يرتبط بذلك من مصالح وعقليات متحجرة.
لا يكفي القول بأن الخطاب الديمقراطي والحقوقي قد حقق اختراقات هامة في صفوف النخب العربية خلال السنوات الأخيرة حتى أصبح الجميع يتخوفون من أن يجدوا أنفسهم في مواقف متعارضة مع هذه القيم الكونية، ولكن يجب الاهتمام أيضا بمدى تقبل البيئة السياسية والمجتمعية لهذا الخطاب، لأنه عند الاقتراب من الواقع والنظر إليه بعين ناقدة وثاقبة تبرز بوضوح العوامل الكثيرة والمتداخلة التي تدفع نحو مقاومة أي إصلاحات جدية تهدف إلى تغيير البنى والممارسات والمؤسسات.
في هذا السياق، لا يجوز النظر إلى المنطقة العربية وكأنها وحدة ومتجانسة. هناك مشهد معقد، تتفاوت فيه أوضاع الدول العربية إلى حدود بعيدة، فتونس على سبيل المثال نجحت بعد الثورة في تحقيق نقلة سياسية هامة رغم استمرار الصعوبات الهيكلية، وهو ما جعلها تحتل المكانة الأولى في مجال الحريات، في حين لا يزال نشطاء حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني والمعارضون في مجتمعات عربية أخرى يتعرضون حتى اليوم للملاحقة الأمنية والقضائية بسبب آرائهم ومعتقداتهم ورغباتهم في إنشاء جمعيات مستقلة وأحزاب سياسية
لم يعد الحديث اليوم في كثير من دول المنطقة عن مكاسب جديدة لصالح الحريات والحقوق، ولكن تقاس اليوم أوضاع جديدة بنسب التراجع الجارية على قدم وساق لاسترجاع المشهد القديم بكل قبحه وعجرفته.
ما يجري في المنطقة العربية من تحولات ليس فقط شأنا محليا يخص فقط شعوبها ونخبها. لا يمكن فصل المنطقة عن محيطها الإقليمي والعالمي. الجميع يتأثرون بهذه التحولات سلبا أو إيجابا. لهذا ارتبطت الحركات الديمقراطية والحقوقية في المنطقة العربية منذ تأسيسها بالحركات الشبيهة في الدول الغربية، وهي تحتاج باستمرار لدعمها ومساندتها، خاصة في مراحل القمع، وأيضا خلال الانتقال الديمقراطي. لكن رغم الجهود التضامنية التي قامت بها هذه الشبكات الدولية إلا أن الأمر في أشد الحاجة اليوم إلى استراتيجية مختلفة في ضوء المستجدات التي فرضت مواقع متقدمة وغيرت بعض الاشكاليات وحتى موازين القوى. والمهم في ذلك الاعتماد على الذات لأن للغرب حساباته، ويمكن أن يغير مخططاته بشكل جذري إذا اقتضت مصالحه ذلك.
ليس من السهل إصلاح الدولة والانتقال بها من منظومة استبدادية إلى دولة ديمقراطية. وما يجري في تونس قد كشف كما هائلا من الصعوبات والمخاطر. كما أن تصاعد ظاهرة الإرهاب وضع الحركة الحقوقية أمام إشكاليات جديدة وملغمة. كيف تتم مواجهة هذه الظاهرة والنجاح في تفكيكها دون التنازل عن قيم حقوق الإنسان أو التخلي عن قواعد وأصول النظام الديمقراطي. لا شيء أصبح مضمونا مائة بالمائة. الصراع مستمر بين قوى الشد إلى الوراء وقوى الدفع نحو الأمام. والمشكلة أن قوى الدفع مفككة ومتصارعة فيما بينها، ولم تفهم أن مصيرها واحد، وإذا فشل الانتقال الديمقراطي فالجميع سيدفعون ثمنا باهضا.