هناك حرب أو حروب صغيرة تتجمّع خيوطها وأسبابها في أجواء المنطقة العربية، ولعلّها الترجمة الفعلية لـ"العاصفة" التي أشار إليها الرئيس الأمريكي قبل كشف استراتيجيته الجديدة للتعامل مع
إيران.
قد لا تتلازم دوافع دونالد
ترامب -"أمريكا أولا"- مع حاجات المنطقة، لكنها تتلاقى في شكل أو آخر، وإذا كانت الأخطار والتهديدات على درجات فلا شكّ في أن إيران هي اليوم أعلاها وأشدّها.
وعندما تفجّرت الأزمة النووية كانت طهران وضعت قنبلة مليشياتها المذهبية في الخدمة، فيما كانت تعمل على إنجاز قنبلتها النووية.
واقع الأمر أنه كان ينبغي التعامل مع هاتين القنبلتين كأولويتين وتهديدين متساويين ينبغي التعامل معهما في آن، لكن باراك أوباما اختار التصدي للخطر النووي الآجل بالتفاوض على "تأجيل" القنبلة وترك الخطر العاجل، القائم والمتفاعل، بل ساهم في تغطيته، ليحصل على "أسوأ اتفاق" أمريكيا.
أما إيران، فأشهرته كـ"أفضل اتفاق" يبطّن قبولا لجرائم بقنبلتها المذهبية، بدليل رفع العقوبات عنها، ولا يحرمها نهائيا من قنبلتها النووية.
كان ذلك الاتفاق ترجمة لإرادة سياسية مصممة لدى أوباما بمقدار ما كان ثمرة دهاء المفاوض الإيراني وحنكته.
فكل ما كان معلنا خلال عامي التفاوض اقتصر على مسائل تقنية (نسبة التخصيب، أعداد أجهزة الدفع المركزي، تفكيك المنشآت، المراقبة، الحدّ الزمني...)، لكن أوباما وإدارته استنتجا غداة التوقيع أن الاتفاق سيؤدّي إلى تغيير إيران سلوكها الإقليمي، فعلامَ استندت؟
وعندما يقول ترامب وإدارته إن إيران انتهكت "روح" الاتفاق فعلامَ تستند؟ لا يمكن هذه "الروح" سوى أن تكون سياسية، لكن النصوص التقنية لا تعبّر عنها، فأين تلك "الروح" إذا؟
لا بدّ أنها في محاضر الحوارات الطويلة على هامش المفاوضات، وما يُحتمل أن الطرفين الأمريكي والإيراني تبادلاه من تعهّدات لتسهيل التوصّل إلى اتفاق تقني بلا أي "روح".
في تلك الأثناء، وعلى خلفية المفاوضات، كانت إيران تجني المكاسب: أرواح الآلاف في سورية تُزهق، معاناة ملايين العراقيين تتفاقم، انقلاب الحوثيين في اليمن يتوسّع، تعطيل الدولة للاستحواذ عليها في لبنان يتأكّد، والقلق في عموم الخليج يتصاعد.
لم يتغيّر سلوك إيران في الداخل، أما في الخارج فأطلقت العنان لنهج التخريب وتمزيق المجتمعات، إذ كان هدفها التالي انتزاع الاعتراف بنفوذها السياسي، وقد حصلت على أداتَين جديدتَين: تنظيم «داعش» والحرب الأمريكية عليه.
ومع أن إدارة أوباما بكل أجهزتها كانت على علم بالعلاقة العميقة بين إيران والنظام السوري مع جماعات الإرهاب، إلا أنها ظلّت رافضة حتميّة مواجهة الاثنين معا.
في "استراتيجية ترامب" افتراق واضح عن "استراتيجية أوباما" في كونها تضع دور إيران في دعم الإرهاب وزعزعة استقرار المنطقة بموازاة إشكالية الاتفاق النووي، وتنتقل في تحديد الأخطار من الإشارات الأوبامية السطحية والخجولة إلى إبراز السجل الأسود لإيران -الجمهورية الإسلامية- من مساهمتها في قتل المئات من الجنود الأمريكيين طوال عقود ثلاثة ماضية إلى إيقادها العنف الطائفي في العراق وإزكائها الحرب الأهلية في
سوريا واليمن، فضلا عن تهديدها جيرانها والتجارة الدولية وحرية الملاحة.
بمعنى أن "روح" الاتفاق (النووي) كانت تقتضي التعامل مع كل هذه المسائل، ومنها الحدّ من تطوير الصواريخ البالستية الذي كان مثار نقاش وخلاف خلال مفاوضات فيينا.
كل ذلك يبني "قضية" موجودة أصلا وتتطلّب معالجة جدّية إذا كان استقرار المنطقة العربية ومكافحة الإرهاب هدفَين حقيقيين للقوى الدولية، وبالأخص للولايات المتحدة.
و"القضية" كما أصبحت واقعيا، وكما أوضحتها "استراتيجية ترامب"، لا تنطوي حاليا على مقوّمات تفاوض تريده الولايات المتحدة لتحجيم النفوذ الإيراني وتريده إيران للاعتراف بنفوذها.
وثمة معطيات أخرى، كالأزمة الكورية الشمالية والصراع البارد بين أمريكا وكلّ من روسيا والصين، وكذلك التردّد الأوروبي، تستبعد الضغط (أو التوافق) من أجل حلّ تفاوضي.
فهذه الأطراف خرجت مستفيدة من الاتفاق النووي أو تنتظر مكاسب جمّدتها القيود الأمريكية، وحتى الأوروبيون الذين يمقتون النظام الإيراني ويدركون النتائج الكارثية لتوسّعاته الإقليمية لا يبدون تأييدا لإلغاء ذلك الاتفاق أو لإخضاعه لمعايير واشنطن.
لكن "استراتيجية ترامب" قد تضطرّهم عاجلا أو آجلا لتوضيح مواقفهم بالاصطفاف "مع" أو "ضد"، وليست مصادفة أن يذكّر اثنين من المعنيين آنذاك (هانز بليكس رئيس المفتشين الدوليين ومحمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية) بأن الأجواء الحالية مشابهة لما شهداه قبيل غزو العراق واحتلاله.
قد يصحّ ذلك، لكن لن يكون غزو أو احتلال هذه المرّة، أما المسرح المرشّح فحدّدته إسرائيل بسوريا ولبنان، بتغاض أمريكي (وروسي؟)، مع تداعيات قد تمتدّ إلى العراق.
المهم في تلك الاستراتيجية أنها الأولى الواضحة في عهد ترامب، وكونها نتيجة توافق بين أجنحة الإدارة، وموضع ترحيب البارزين في الكونغرس (جون ماكين وبول راين).
وربّما جاء الأهم في شروح الأطراف التي ساهمت في صوغها، وعلى الأخص وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي قال إن "هذه نهاية اللعبة (مع إيران) لكنها لعبة طويلة الأمد"، مؤكّدا التعامل مع كل التهديدات الإيرانية وليس الاتفاق النووي فحسب، ليخلص إلى أن واشنطن تسعى إلى "تغيير" النظام الإيراني عبر دعم قوى المعارضة.
وفيما أعلن البنتاغون أنه يجري مراجعة شاملة للنشاطات والخطط دعما للاستراتيجية الجديدة، أكمل مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر بأن ترامب "لن يسمح بأن يكون الاتفاق غطاء لحكومة مروّعة كي تطوّر سلاحا نوويا... ونحن نعرف من سلوك الإيرانيين في المنطقة وتجاه الاتفاق بأنهم تجاوزوا الخطوط المرسومة مرات عدّة".
أما المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هايلي، فأشارت مجددا إلى "عدم السماح بأن تكون إيران كوريا الشمالية المقبلة"، على رغم أن ناقدي توجّه الإدارة الترامبية يحاججون بأن زعزعة الاتفاق مع إيران تقوّض احتمالات الحل السلمي للأزمة مع كوريا الشمالية.
من الواضح أن المواجهة مع إيران هي جوهر "استراتيجية ترامب"، وأنها قد تستدرج حربا تكاثر الحديث عنها أخيرا. فالأجهزة الإسرائيلية كثّفت أخيرا اتصالاتها مع واشنطن وموسكو، وطرحت أفكارا في شأن الوجود الإيراني في سوريا، وحدّدت الخطوط الحمر التي ترفض تجاوزها.
إذ لم يعد الاتفاق النووي الأولوية الحالية لإسرائيل، بل الحدّ من النفوذ الإيراني.
ثمة مؤشّر آخر في سلسلة اجتماعات عقدت أخيرا في واشنطن، بمشاركة سياسيين وعسكريين أمريكيين وإسرائيليين، وأخرى حضرها مسؤولون من المؤسسات المالية الكبرى، وكانت الخيارات المطروحة إزاء التوسّع الإيراني محورا للنقاش.
وعلى الرغم من أن تصنيف الحرس الثوري جماعة إرهابية بدا ضروريا، إلا أن تبنيه رسميا من جانب الرئيس الأمريكي يُلزمه بإعلان الحرب عليه إسوة بالتنظيمات الإرهابية الأخرى، ما يعني حربا واسعة لا تريدها أمريكا، لأسباب داخلية وخارجية.
أما الحرب على "
حزب الله" وغيره من المليشيات الإيرانية في لبنان وسوريا، باعتبارها أدوات لـ"الحرس"، فيمكن أن تأخذ فيها إسرائيل زمام المبادرة بموافقة أمريكية ضمنية.
واللافت أن تقدير المواقف ذهب إلى حد ترجيح عدم اعتراض روسيا على "فرصة" متاحة أمامها لتحجيم الوجود الإيراني في سوريا، لكن سيكون لها لاحقا دورٌ في إدارة وقف إطلاق النار.
في أي حال، إذا صحّت هذه التوقّعات، لن تكون الحرب وشيكة، فهي تتعلق أولا بمرحلة "ما بعد داعش" في العراق وسوريا، ثم بتثبيت "مناطق خفض التصعيد" في سوريا، وأيضا بجلاء الصراع حول المسألة الكردية.
وكلّها محطات تسعى إيران إلى استغلالها في تعزيز نفوذها.
ولا شك في أن الضربات الإسرائيلية المتواصلة للمواقع الإيرانية في سوريا تشكّل جزءا من السيناريو الذي يدور تحت أنظار الروس.
ولعل ما يدعم احتمالات المواجهة العسكرية أن إيران تريدها طالما أنها أولا خارج أراضيها، وثانيا تؤمّن لها إدامة للصراعات إذا لم تحصل على اعتراف بنفوذها، وهو ما لا ينفكّ يبتعد.
لذلك، فإن مناخ المواجهة قد يجعلها أكثر عدوانية في عموم المنطقة العربية.
(عن صحيفة الحياة اللندنية)