ما يجري في
العراق من سرقات علنية يذكرنا بحكاية اللص الأمريكي "مكاثر ويلر"، الذي سطى على بنك بيتسبيرج، في العام 1995، وقبل ارتكاب جريمته وضع ويلر عصير الليمون على وجهه، ظنا منه أن العصير سيساعده في الاختفاء عن كاميرات المراقبة؛ لأن عصير الليمون يستعمل في الحبر السري!
هذه الحكاية تقودنا للواقع المؤلم في العراق، حيث إن كبار اللصوص يتحدثون أمام الكاميرات - وبلا أدنى خجل - عن النزاهة والشرف وحفظ المال العام، وكأنهم بهذه التصريحات يمكن أن يختفوا، أو يفلتوا من العقاب القانوني، وأن يغيروا من حقيقة النهب الحاصل والمستمر في ثروات البلاد.
السرقات في العراق لها علاقة وثيقة بالميزانيات الخيالية المقرة في البلاد من العام 2003، التي تجاوزت أرقامها الرسمية الألف مليار دولار، ولهذا فإن أي ميزانية جديدة تقر في العراق، فهذا يعني أن مناسبة جديدة أو فرصة ذهبية جديدة قد أتيحت لنهب المال العام واللعب به.
وفي الثالث من آذار/ مارس الحالي، أقرّ مجلس النواب في العراق موازنة البلاد للعام الحالي، رغم غياب الكرد عن الجلسة لاعتراضهم على تخصيصاتهم المالية التي تم اعتمادها، والبالغة نحو 12 في المئة وفق النسب السكانية، بعد أن كانت حصتهم 17 في المئة. وبلغت الموازنة الجديدة 88 مليار دولار، بعجز 10.25 مليارات دولار، وقد وضعت الموازنة على اعتبار أن سعر برميل النفط المعتمد فيها 46 دولارا، وبمعدل تصدير 3.8 ملايين برميل يوميا، من ضمنها 250 ألف برميل عن كميات النفط الخام المنتج في محافظات إقليم كردستان.
وقد تضمنت الموازنة تخصيص 2.5 مليار دولار لغرض شراء الأسلحة والأعتدة والدعم اللوجستي، لكل من وزارتي الداخلية والدفاع وهيئة الحشد الشعبي وجهاز مكافحة الإرهاب.
وبعيدا عن لغة الأرقام والصفات الموقعة سلفا، فقد كشف النائب عن التحالف الوطني جواد البولاني عن" وجود 22 خرقا دستوريا في موازنة 2018، وأن "الموازنة المالية للعام 2018 أقرّت وسط فوضى داخل مجلس النواب، وأن الموازنة لم تراعِ تكافل الاقتصاد الزراعي والصناعي، وأقرّت على أساس الدعاية الانتخابية، وأن البلاد بحاجة إلى تكافؤ الفرص".
ودعا البولاني إلى "إعادة النظر بشأن إقرار الموازنة، كونها أقرّت في ظروف تنافس انتخابي". وبعيدا عن الخروقات المختلفة، والاعتراضات الكردية، فإن الموازنة قد أقرت، ولا يمكن التراجع عن إقرارها؛ لأن مجمل الأحداث في العراق اليوم مرتبطة بالتنافس الانتخابي، وبالتالي الحكومة حريصة على تمريرها، والظهور بأنها الحارس الأمين للمال العام، وكأن السرقات تمت في بلاد أخرى وليس في البلاد ذاتها، التي يحكمها حزب الدعوة الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة حيدر العبادي!
الأموال المنهوبة في العراق اعترف بها وزراء سابقون في الحكومة، ومنهم عادل عبد المهدي وزير النفط الذي كشف في آب/ أغسطس 2015، أن "
الفساد أفقد البلاد 450 مليار دولار، منذ العام 2003 وحتى العام الجاري".
وهذه الحقيقة أكدتها لجنة النزاهة النيابية العراقية، وبأن" نحو ألف مليار دولار هدرت بسبب الفساد في العراق بعد عام 2003، وأن هناك أكثر من 600 مليار دولار ليس لها وصولات، ومبالغ أخرى شابتها عقود فساد وهمية ومشاريع متلكئة فيها خروقات ومخالفات، وأن الفساد استشرى في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية".
هذه الاعترافات الصريحة وغيرها تؤكد أن في العراق موجات قاتلة من الفساد المالي، ستبقي البلاد في حالة خراب دائم، ومشاريع وهمية مع استمرار الثراء الفاحش لغالبية المسؤولين في السلطات الثلاث!
بعيدا عن لغة الأرقام المذهلة التي تؤكد حجم السرقات التي لم تماثلها كبرى السرقات في التاريخ البشري، وبغض النظر عن هيئات الرقابة والمحاسبة والنزاهة الرسمية، التي لم تؤد الواجب الوطني المطلوب منها، فان الحديث عن مكافحة السرقات في العراق يتطلب السعي لتأسيس "هيئة إحياء الضمائر الميتة"، لتدريب المسؤولين في الدولة على حقيقة مهمة، وهي أن السلطة ليست بابا للثراء غير الشرعي، بل هي أمانة ثقيلة يكون فيها المسؤول ممثلا للشعب، تماما كما هو حال رب الأسرة في المسؤولية من حيث السعي لتقديم الأفضل لعائلته.
الأرقام المسروقة في العراق لم يعد لها أي معنى؛ لأن القضية هي في منْ سيحاسب سُراق المال، هذا هو الألم المستمر الذي لا نعرف ما هو علاجه؟