(1)
لم أتابع مباراة "انكسار الحلم" بين مصر وروسيا، ولم تصدمني النتيجة، فأنا من الجيل العنيد الذي تربى على انكسار الأحلام ومعايشة الهزائم، فلم يزده ذلك إلا صلابة تنبع من نقطة إيمان عميقة في القلب، ولا تخضع لكل المظاهر الخارجية التي تسعى لإثبات هزيمتنا كأمر واقع. لذلك، كنا ندلل الهزيمة فنسميها "نكسة"، وكنا نغفر للمهزومين أخطاءهم فنسامح من غير أن نحاسب، ونمارس المواساة الجماعية بأساليب تحايل غريزية وثقافية؛ صارت مع الوقت أقوى مخدر جماعي عرفته البشرية، نسميه أحياناً "التفكير الإيجابي في الجانب المضيء من المشهد"، ونسميه أحياناً أخرى "التمثيل المشرف"، حيث لا ينبغي أن نقارن أنفسنا بدول العالم المتقدم (احنا مش فرنسا ولا أمريكا)، فالمقارنة عندنا للأسفل دائما، وكل مصيبة تحدث لنا فهي خير لأنها أهون من مصيبة أفدح نتوقعها ونحمد الله أنها لم تصبنا. وكما نقول في أمثالنا الشعبية: "اللي يشوف بلوة غيره تهون عليه بلوته"، لذلك فإننا لا نهتم برؤية منجزات الناجحين، ونستعيض عن ذلك بمقارنات مع المصابين المحطمين لنشكر الله على هزائمنا اللطيفة (أحسن ما نبقى زي سوريا وليبيا والعراق).
المسألة تبدو فلسفية، لكنها بسيطة إذا شاركت معي في تأملها ومقارنة 87 دقيقة بـ3 دقائق: لدينا على الشريط المسجل ثلاث دقائق حقق فيها المنافس أهدافه، إذا حذفناها، يكون لدينا 87 دقيقة من البطولة والنصر
(2)
لا أكتب لأدين العقل الجمعي لبلادنا، ولا أكتب لأتبرأ من حالنا المأسوف عليه مُلقياً بالهزائم على الآخرين، فليس من العقل أن أرمي ثقافة شعب وراء ظهري، وأفترض افتراضات نظرية لما يجب أن تكون عليه ثقافة الشعب، لذلك أكتب محاولاً تطوير هذه النظرة "الغفرانية" المسالمة، كي لا نكرر في المستقبل كل أخطائنا القديمة، خاصة وأنني ممن يؤمنون بأن النظرة البراجماتية للنتائج لا تكون في معظم الأحيان عادلة؛ لأن العالم بحكم تركيبته ليس عادلاً في معظم حالاته وأزمنته، فهو عالم جبان منحاز للأقوياء قبل دارون وبعده. فعلى سبيل المثال، إذا حذفنا ثلاثة دقائق فقط من عمر المباراة بين مصر وروسيا، فإن الكلام سيكون غير الكلام عن الـ88 دقيقة الباقية.. سنحتفي بالأبطال، ونسرف في تمجيد نفس الأسماء التي غضبنا منها ونعتناها بأقذع الأوصاف وكلمات السباب، وهذا يعني أن ثلاثة دقائق حدثت بها ثلاثة أخطاء كانت كفيلة بتغيير لغتنا ومشاعرنا ونظرتنا للأمور وللناس، وربما إحساسنا بقيمتنا وقيمة حياتنا كلها؛ لأن العمر نفسه يمكن أن يضيع بسبب ذلك، فقيمة الزمن تتغير وترتبك. المسألة تبدو فلسفية، لكنها بسيطة إذا شاركت معي في تأملها ومقارنة 87 دقيقة بـ3 دقائق: لدينا على الشريط المسجل ثلاث دقائق حقق فيها المنافس أهدافه، إذا حذفناها، يكون لدينا 87 دقيقة من البطولة والنصر، فلماذا نخسر مجهودنا طوال 87 دقيقة ونخسر معها فرصة انتصارنا بسبب ثلاث دقائق فقط؟ الإجابة الشائعة تخبرنا ببساطة بأن ذلك يحدث نتيجة "أخطاء صغيرة قاتلة".
إجابة "الأخطاء الصغيرة القاتلة" التي صرح بها المدير الفني لمنتخب مصر "هيكتور كوبر"، ليست بالبساطة التي قدمتها الفقرة السابقة، لكنها تحتاج إلى مناقشات أعمق تتعلق بمفهوم العلاقة بين القَدَر والإرادة الإنسانية، بين الحظ والمصادفات واللعنات العشوائية من جهة وبين التدريب والتخطيط والقوة والجهد من جهة ثانية، على سبيل المثال طالما سألت نفسي وبحثت طويلاً عن إجابة: هل كانت رمية الأمير الطروادي العابث "باريس" التي أصابت كعب أخيل؛ رمية مقصودة تقوم على علم؟ وتدريب أم مجرد رمية عبثية أو بتدخل من مشيئة إلهية لأرباب وربات الأوليمب؟.. بمعنى هل علم باريس بنقطة ضعف أخيل الذي عمدته الآلهة في البحيرة المقدسة؛ فتحصن جسده من الطعنات إلا مكان إصبعي الآلهة التي أمسكته من قدميه وغمرته من رأسه في ماء البحيرة الذي لم يصل إلى مكانين في خارج القدم عند الكعبين، ولما علم ذلك (أهمية المعلومة والعمل عليها) تدرب على الرمي بالقوس حتى استطاع أن يحقق ما لم يحققه شقيقه الفارس العظيم هيكتور؟!
الهزيمة ستتحقق ليس بسبب وجود أخطاء صغيرة قاتلة، ولكن بسبب وجود أخطاء كبيرة تتعلق باللياقة البدنية والتدريب والتخطيط العلمي والانضباط والاستعداد النفسي والذهني وبنية الرياضة والرياضيين
الدرس السياسي من مباراة مصر مع روسيا يتعلق بمشاركة اللاعب الدولي الشهير محمد صلاح، فهو منتصر ناجح يحقق أهدافه وأهداف فريقه، في بيئة رياضية علمية تراعي القواعد والتخطيط والتدريب
(6)
الدرس السياسي من مباراة مصر مع روسيا يتعلق بمشاركة اللاعب الدولي الشهير محمد صلاح، فهو منتصر ناجح يحقق أهدافه وأهداف فريقه، في بيئة رياضية علمية تراعي القواعد والتخطيط والتدريب؛ لأن مهاراته الفردية وجهده لا يضيع في الفراغ بسبب الفهم والتكامل، ونفس الشخص يصبح مهزوماً غير قادر على تحقيق الانتصار لفريقه في بيئة رياضية تقوم على "الزفة" والمحسوبيات.. بيئة شللية ينخر فيها الفساد الإعلامي والسياسي والمالي. وقد تضرر صلاح نفسه من هذا الفساد قبل كأس العالم، وربما يتضرر أكثر بعد ذلك إذا لم يتدرب على كيفية التعامل مع المنظومة المنحطة ليحمي نفسه من أضرار نظام فاسد لا يهمه إلا توظيف كل شيء لصالحه ومصالحه وإلا سارع بتحطيمه.
(7)
الهزيمة ليست قَدَرا نهائيا، لكنها أيضا ليست صدفة، ولا خطأ صغيرا.
tamahi@hotmail.com
"الكرة الأمورة" في مرمى العروبة والإسلام
دور لم أخطط له.. النقد الذاتي (17)