بكل تأكيد لم تكن الخرجة الإعلامية
للمستشار الملكي في المغرب، عباس الجراري، أمرا عاديا ولا مألوفا، لا من حيث التوقيت، ولا الوسيلة الإعلامية التي اختار تصريف الموقف من خلالها، ولا من حيث المضمون أيضا.
بداية، نسجل غيبة طويلة للأستاذ عباس الجراري (ليست كل أسبابها معلومة). فالتفاوت في الفعل والتعبير داخل مؤسسة الاستشارة بالديوان الملكي؛ قد يجد تفسيره بطبيعة الوظائف، أو النفوذ الذي يبنى ضمن ديناميات تفاعلية داخل مؤسسة الاستشارة، أو الخيارات الاستراتيجية المؤطرة للمرحلة.
عباس الجراري من أحد الأعلام المميزين بالمغرب، ووظائفه داخل مؤسسة الاستشارة مرتبطة بأكثر من مجال: ثقافي وتربوي وديني.
لا نريد ترجيح أحد هذه الأسباب التي أملت غيبته، لكن ثمة تحديات كثيرة دينية وثقافية وتربوية كانت تملي من هذا الاختصاص أن يكون فاعلا داخل مؤسسة الاستشارة، لكن، لم تكن فعالية هذا المستشار بارزة في صورتها الرسمية أو الإعلامية، إلا عند محطة الدورة الأخيرة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي الذي يرأسه المستشار الملكي عمر عزيمان، والتي انصب محورها الرئيس على قضية تعميم التعليم الأولي.
يمكن أن يكون الاختصاص مفسرا بملاحظة التزامن بين الخرجة وحدث الإعلان عن استراتيجية تعميم التعليم الأولي، وتحمّل الدولة لمسؤولياتها في إطلاق هذا الورش، والرهان عليه في إصلاح منظومة التعليم، لكن المضامين التي ترتبت عبر هذه الخرجة الإعلامية تجعل من هذا التفسير غير كاف لجملة اعتبارات منها:
أن الرجل اختار أو استجاب - والأمر سواء - أن يطلق موقفه عبر جريدة وطنية مستقلة، يعاني
مديرها، السيد توفيق بوعشرين، محنة محاكمة تثار حولها العديد من نقاط الاستفهام، فأعطى حوارا مطولا للجريدة لم تكتمل بعد حلقات نشره، وهو ما يعني احتمال وجود تباين في التقدير داخل مؤسسة الاستشارة بخصوص التعاطي مع ملف توفيق بوعشرين، ليس في حيثياته القانونية، ولكن في أبعاده السياسية وعلاقته بالمسار الديمقراطي والحقوقي بالمغرب.
ثاني هذه الاعتبارات، والتي تخص التوقيت، أن الخرجة جاءت في ظروف دقيقة يسودها الكثير من الغموض والالتباس والتردد، وتجنبت العديد من النخب السياسية إبداء الرأي الصريح فيها، إذ جاءت عقب إصدار أحكام قاسية ضد معتقلي حراك الريف، وإصدار حكم آخر على صحفي (حميد المهداوي)، وتفجر حركة تضامن واسعة في
المغرب مع المعتقلين تسائل البعد السياسي في هذه الأحكام، سواء في مسيرة الدار البيضاء أو مسيرة الرباط، فضلا عن ظهور تشابه في تقدير القوى الديمقراطية لطبيعة اللحظة الملتبسة، والحاجة إلى إطلاق جيل جديد من الإصلاحات.
أما الاعتبار الثالث، فيخص مضمون هذه الخرجة، والتي تجاوزت بعض دوائر التحفظ، بتقديم تقييم قاس لوضعية التعليم ولمسار
التنمية ومساءلة دور المثقفين والعلماء، وبعث إشارات سياسية واضحة عن التلازم في التقييم بين التنمية وبين أعطاب السياسة، فضلا عن
حديثه عن المقاطعة الشعبية لبعض المتوجات الأساسية، والوضع الديمقراطي والحقوقي.
لا يهمنا في هذا التحليل تقييم الرجل للسياسات العمومية، ولا حتى ملاحظاته عن أعطاب النموذج التنموي في المغرب، فهذه المواقف، يمكن أن تقرأ في علاقتها بمضامين الخطب الملكية، وأنه لا جديد فيها، وأنها ليست أكثر من صدى للجيل الجديد من الخطب الملكية التي تبنت خطابا نقديا حادا للسياسات الحكومية خاصة في مجال الصحة والتعليم.. ولكن الذي يهم في هذا السياق ثلاث إشارات، أولها ربطه بين أعطاب النموذج التنموي وبين تعثرات المسار السياسي، وذلك حين حديثه الضمني عن صراع القوى، وأثره في تعطيل مسار تشكيل الحكومة، وانعكاسات ذلك على المسار التنموي. وثانيها النقد القاسي الذي وجهه للنخب، وبشكل خاص المثقفين والعلماء، ومسؤوليتهم في استنفاذ النموذج التنموي لأغراضه. والثالثة ما يرتبط بقضايا الهوية، وحملة الاستهداف التي تواجهها، ومخاطر رهن التعليم بلوبيات المصالح والتجار، واستقالة الدولة من أداء دورها في التعليم وتمويله لتحصين الهوية.
مؤكد أن مستلزمات التحفظ تلزم المشتغلين في مؤسسة الاستشارة بعدم تجاوز بعض الدوائر المرسومة، لكن الظاهر أن الظرفية الدقيقة التي يعيشها المغرب؛ ربما فرضت قدرا من الجرأة في توسيع هذه الدوائر. فالمشروع الذي أقدمت عليه الدولة، بإيعاز من المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، بتعميم التعليم الأولي، وكذا واقع الفوضى الذي يسود السياسة اللغوية في مجال التعليم والسيطرة الفرانكفونية على مجرياته.. كل هذا يبرر هذه الخرجة من مستشار ملكي معروف بخلفياته الفكرية الأصيلة، والذي لا يتردد في إعلان خشيته من أن تمتد يد الفوضى وتمس هذا المشروع الضخم الذي يشكل أساس ومنطلق المنظومة التربوية، وتقضي على ما تبقى من رصيد الأصالة بهذا البلد العريق. كما أن التنبيه على مسؤولية النخب والمثقفين والعلماء في وقف النزيف، وفي النهوض بالمشاريع الإصلاحية التي أعلن عنها الملك في كامل الانسجام مع هوية الأمة ورصيدها الحضاري، تعطي صورة عن طبيعة اللحظة الدقيقة التي يعيشها المغرب، وتكشف حالة الاستياء من خذلان النخب للإصلاح، وضلوعها في التواطؤ ضده أو على الأقل الدخول في موجة الصمت التي استثمرت من قبل خصوم الإصلاح والهوية على السواء.
وعلى العموم، ومهما كانت اللغة الأنيقة والمتحفظة التي استعملها المستشار الملكي في حواره مع الجريدة الوطنية، فإن رسائلها لا يمكن أن تخطئها العين. فالخروج بعد الغيبة، والإفصاح بعد الصمت الطويل، يومئان بأحد أمرين: إما استثمار اللحظة الدقيقة لتبرير عودة الدور بفعاليته المعهودة في الزمن السابق، أو تنبيه من يهمهم الأمر إلى خطورة اللحظة السياسية، وما تتطلبه من مواجهة التحديات برهانات استراتيجية عاجلة، والانتباه إلى المخاطر التي تحملها أفكار بعض النخب المفصولة عن الخلفية الأصلية للأمة.
Talidi22@yahoo.fr