عندما سقطت الخلافة العثمانية، رفع الإخوان المسلمون شعار الدولة الإسلامية، كخطوة نحو استعادة الخلافة. لم تتحقق هذه الخطوة رغم حجم التضحيات، ونظرا للتحديث الذي حصل في الأثناء، فقد نشأت نخب جديدة تشبعت بالثقافة المعاصرة، وتمكنت من قيادة الحركات المطالبة بالاستقلال، ونجحت في تأسيس ما يعرف بـ"الدولة الوطنية". هذا النمط من الدولة لا علاقة له بـ"الدولة الإسلامية" التي تجند الإسلاميون لإقامتها، والتي لم ينجحوا في نحت ملامحها، أو في إعطائها مضامين اجتماعية واقتصادية وسياسية مقنعة.
أما الدولة الوطنية، فقد بدت أقدر على التجسد والقدرة على الحياة لكونها بدت شبه جاهزة، وتشبه الدول التي أفرزتها التجارب الغربية الواسعة والثرية. ورغم أن الدولة الوطنية تعتبر شبه علمانية، ولم تكن ديمقراطية، وتعاني الكثير من النقص والتشوهات، إلا أنها لم تقطع مع الإسلام، ولم يقدمها مؤسسوها على كونها معادية للدين.
رغم أن الدولة الوطنية تعتبر شبه علمانية، ولم تكن ديمقراطية، وتعاني الكثير من النقص والتشوهات، إلا أنها لم تقطع مع الإسلام
عندما اشتد التنازع السياسي والمذهبي بين الإسلاميين والعلمانيين، ظهر مصطلح الدولة المدنية كصيغة من شأنها أن توفر فرصة للتعايش أو الاتفاق بين الطرفين حول طبيعة "الدولة الوطنية"، فلا هي دولة إسلامية بالمعنى العقائدي، ولا هي دولة معادية للإسلام كهوية ثقافية ودينية. ورغم أن ذلك قد خفف كثيرا من حدة التباين والصراع، إلا أن الخلاف مستمر بين المعسكرين؛ لأن جوانب مرتبطة بالمفهوم لا تزال غامضة أو غير متفق حولها.
تعتبر
تونس من أهم الأمثلة الحية على هذا الجدل المتواصل الذي عاد هذه الأيام، وهو مرشح لكي يفرض نفسه من جديد بمناسبة مناقشة البرلمان لمشروع قانون المساواة في الإرث خلال الأشهر القادمة.
كانت حركة النهضة مدفوعة من قبل تيار قوي عند كتابة
الدستور داخل المجلس الوطني التأسيسي؛ من أجل التنصيص على أن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي للتشريع. وكان أصحاب هذا التيار يعتقدون بأن ذلك من شأنه أن يقيد الدولة، ويطبعها بطابع إسلامي مناهض لما فعله الرئيس بورقيبة. لكن هذا التيار تراجع فيما بعد، عندما أدرك الغنوشي ومن معه بأن هذا التنصيص على مصطلح الشريعة ستكون له انعكاسات سياسية خطيرة على مستقبل الانتقال الديمقراطي. وتم الاحتفاظ بالفصل القديم للدستور الأول الذي يشير إلى أن تونس "دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها"، وأقنع جمهوره بأن ذلك يكفي لحسم هوية الدولة باعتبارها إسلامية. وبما أن الإسلام هو دين شامل، فإن الشريعة هي جزء منه. لكن التيار العلماني كان قويا وذكيا، إذ فرض في المقابل فصلا جديدا فيه تأكيد على أن "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون"، كما اشترط التيار العلماني بأنه "لا يجوز تعديل هذا الفصل". وعندها استسلم الإسلاميون مقابل الحصول على عدم المساس أو تغيير الفصل السابق، لكنه كان اطمئنانا مؤقتا!!
التيار العلماني كان قويا وذكيا، إذ فرض في المقابل فصلا جديدا فيه تأكيد على أن "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون"
تكمن المشكلة في الدستور التونسي في أن نواب حركة النهضة قبلوا بالتنصيص على عدد واسع من الفصول والمصطلحات، ولكل فصل ومصطلح فلسفته التي ولد ضمن سياقها التاريخي والثقافي. والآن يمر الانتقال الديمقراطي في تونس إلى السرعة الموالية، حيث سيتم الشروع في تغيير القوانين التي تمت صياغتها قبل الثورة من أجل حذف القوانين التي تعتبر الآن غير دستورية. ومع كل تغيير يتواصل المخاض الصعب؛ مخاض يقتضي من حركة النهضة وجمهورها والأوساط المحافظة في تونس الكثير من الصبر والقدرة على التفاوض، حتى يتم التوصل إلى تسوية قائمة على الرضى والتوافق.
الذين يخلطون بين العلمنة والإلحاد لا يدركون أن هذا الخلط من شأنه أن يعمق التباغض، ويستنفر وجدان المؤمنين، ويدفع نحو التقسيم والصراع
هكذا يتبين أن العلمنة الجزئية أو الشاملة مسار طويل وشاق، وهو يستوجب وعيا شديدا بصعوبة الأوضاع من قبل جميع الأطراف. فالذين يخلطون بين العلمنة والإلحاد لا يدركون أن هذا الخلط من شأنه أن يعمق التباغض، ويستنفر وجدان المؤمنين، ويدفع نحو التقسيم والصراع. الإلحاد موقف فلسفي شخصي، يمارسه الفرد تجاه نفسه ويؤسس في ضوئه سلسة من المواقف والآراء، لكن لا يجوز تحويله إلى سلوك عدواني تجاه المجتمع والمواطنين المتدينين. صحيح أن القاعدة هي المواطنة التي تجمع كل التونسيين، لكن التعايش بين هؤلاء المواطنين لا تتحقق في أجواء الاستفزاز والثأر التاريخي والمس من مشاعر الأفراد ومعتقداتهم. أما السياسة، فهي مجال الصراع والاختلاف التي تحسم عبر الانتخاب وعبر التشريع المشترك لنظام الدولة والمجتمع.