كل تغيير اجتماعي ضخم يجب أن يسبقه عدد كبير مما يسميه أستاذنا كليم صديقي؛ بالحركات الوقتية والثورات الجزئية، أي الحركات المجهَضة التي تُكوِّن التراكم التاريخي المطلوب للخبرة. وتشحن الحركة الاجتماعية بطاقة دفع إنسانية ومعرفية باتجاه تغيير أكبر وأكثر أهمية، ذلك أن
التغييرات الكُبرى في تاريخ الإنسانية لا تحدث فجأة - بين عشية وضُحاها - وإنما تتحقَّق عمليّا وبالتدريج عبر مسيرة طويلة من الإخفاقات المتكررة، التي تُضيف إلى رصيد الخبرة الإنسانية وتُغير التركيبة النفسية والبنية الاجتماعية، ولو بالسلب؛ فتُعدهما للمرحلة الجديدة.
ومهما بلغ حجم التغيير المنشود ومهما كانت راديكاليته، فإنه لن يكون أبدا تغييرا "كاملا" ولا "نهائيّا". ذلك أن القطيعة الطوباوية الكاملة مع الماضي أمر مستحيل عمليّا، لهذا كان مفهوم
الثورة "الشاملة "أو "الدائمة"مفهوم غير تاريخي، وغير واقعي، وغير إنساني على الإطلاق. وكان الأدق هو الحديث عن اللحظات الثوريَّة النماذجية القصيرة، بوصفها محفزات للتغيير الاجتماعي.
وقد شَهِدَت
مصر عدة محفِّزات من هذا النوع ابتداء من كانون الثاني/ يناير 2011م، وانتهاء بمذبحتي رابعة والنهضة في آب/ أغسطس 2013م. لكن إدراك نمط الحركة التاريخية، ومكابدة التاريخ، واحتمال منحنياته، ارتفاعا وانخفاضا، وصولا إلى فعل تاريخي أكبر يقود إلى تغيير اجتماعي أكبر؛ يقتضي الكثير من الصبر والتبصُّر، وسلامة الوجهة القلبية، وكفاية العدَّة المعرفية. ذلك أن التغيير الأكبر في كل حلقة تاريخية لا يصل إليه الجميع. إنها عملية أشبه بـ"الانتخاب الطبيعي"، لا لأنها تخلف ضحاياها من القتلى والجرحى والمقعَدين والمأسورين فحسب، بل لأنها تخلف ضحايا أكثر بكثير ممن في قلوبهم مرض والقاعدين والمثبِّطين والمرتزقة وباعة المبادئ. إن هؤلاء الضعفاء يسقطون بكثرة، للأسف؛ بما أن الفردوس الأرضي مستحيل تاريخيّا وإنسانيّا. لكن لا يشترط أن يكون السقوط مُخزيا مُخلّا بالشرف في كل مرة، بل قد يكون محض ضعف إنساني طبيعي يعوق عن مواصلة الطريق، ولوذ بحمى "أكل العيش"في الموطن أو في المهجر. إنه بالأصل افتقادٌ للوجهة الشخصية وللحافِز الروحي، وللصحبة التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر. إن هؤلاء الضعفاء يفتقِدون القدرة على المكابدة، حتى في خلخلة الأسس المعرفية والضلالات الروحيَّة التي يرفضونها؛ قبل أن يفقدوا أنفسهم في غمار الطريق.
* * *
لقد دامت الثورة الفرنسية عشر سنوات (1789 - 1799م)، وبدأت الثورة الروسية عام 1905م، ولم يصل البلاشفة إلى الحكم إلا في 1917م، بعد حرب أهليَّةٍ طويلة؛ وقد ظلوا لوقت طويل في صراع مع خصومهم من"الثورة المضادة"، ولم تستَتِب لهم السلطة إلا في منتصف العشرينيات تقريبا. أما الثورة الإيرانية، فهي مثال مُتميز أقرب تاريخيّا وسوسيو- معرفيّا وروحيّا لحالة شعوب ما سُمي بـ"الربيع العربي". فإذا كانت الثورة الإسلاميَّة في إيران قد أعلنت انتصارها بعودة الإمام الخميني إلى طهران في مطلع عام 1979م، فإن الإعداد الحقيقي للثورة قد بدأ بنفيه رحمه الله عام 1963م (أو بالأحرى بدأ بالحوادث التي أدَّت لنفيه، أو ما يُعرف في التاريخ الإيراني الحديث بـ"انتفاضة خرداد"). بل يمكن رد الثورة الإيرانية لجذور أقدم من الحركات الوقتية والثورات الجزئية؛ يمكن ردَّها لإجهاض حركة مصدق وإعادة بهلوي إلى عرشه على رأس انقلاب أمريكي مطلع الخمسينيات، بل ويمكن ردها لجذور معرفية أقدم؛ جذور قد تتجاوز ما عُرِفَ بـ"ثورة التبغ" أواخر القرن التاسع عشر. إن حلقات التاريخ الإنساني تتصل ببعضها البعض بأسباب أكثر من دواعي انقطاعها، وهو ما يغفل عنه "الثوريون الطفوليون" الذي يريدون الحياة في طوبيا ثوريَّة دائمة لا تتحقَّق في التاريخ أبدا.
ويمكن أن يقال مثل ذلك عن انقلاب 1952م العسكري في مصر، الذي أجهض الثورة الشعبية التي كانت تعتمِل في أحشاء البلاد (ومثله انقلاب 2013م). إذ يمكن رد نمطه إلى جذور تاريخية أعمق؛ إلى "هوجة" أحمد عرابي - مثلا - بوصفها أول "حركة"عسكرية في التاريخ المصري الحديث، وإلى الجهود السياسية لمصطفى كامل وحزبه مطلع القرن العشرين، كما يُمكن تتبُّع الجذور المباشرة للانقلاب في معاهدة عام 1936م على وجه التحديد، إذ سمحت بنود المعاهدة لجمهرة جيل الضباط الانقلابيين بالالتحاق بالكلية الحربية رغم خلفياتهم الطبقية المتواضِعة. وكذا يمكن رد أسباب نجاح انقلاب عام 1952م إلى تبدُّل الظروف العالميَّة والإقليمية عقب الحرب العالمية الثانية، وتغيُّر ميزان القوى (صعود الأمريكان وإفلاس البريطانيين) وإلغاء المعاهدة وحريق القاهرة. لقد كانت الثورة تعتمِلُ في الأفق حتى أن كثيرا من النقاد يعتبرون رواية توفيق الحكيم "عودة الروح"، التي نشرت في الثلاثينيات؛ تنبؤا بالثورة المنظورة؛ الثورة التي أجهضها الانقلاب وامتص الزخم الشعبي الذي كان يفور في قِدرها.
* * *
إن التراكم التاريخي الفعال، الذي يُشكِّل التغيير التدريجي؛ لا يتكون من طبقات من الحوادث الفعَّالة والتجارب الناجحة، بل هو بالضرورة مكون في أكثره من تراكم للثورات الجزئية نصف الناجحة والحركات الوقتية المجهضة والفاشلة. إن تكرار صور الفشل الإنساني والاجتماعي قبل بلوغ اللحظة النماذجية لا يعني سوى أن الاستعداد الإنساني والاجتماعي للتغيير المنشود لم يكتمِل بعد، وهو استعداد لا يشمل كل "الجماهير" بطبيعة الحال، بل يُطلَب من كتلة حرجة تستطيع قيادة الجماهير التي أخلَدَت إلى الأرض، فتحملها بغير أدنى محاولة لإساءة استغلالها اقتصاديّا أو سياسيّا.
وإذا كانت اللحظة النماذجية المنتَظَرة مجرد غيب، وإذا كان طولها المرتَقَب غير معلوم، وإذا كان الوصول لها يعني حتميَّة تقوّضها بعد استنفادها لطاقتها، لتُعيد الجماعة الإنسانية المحاولة والمكابدة داخل التاريخ الذي لا نعلم نهايته؛ فإن الشرط الأهم الذي قد يدفع بنا للاقتراب من اللحظة النماذجية هو الانتباه لطبيعة المسئولية التي يتعين على تلك الكتلة الحرجة (الجماعة المؤمنة) الاضطلاع بها. إن هذه المسؤولية لا تقتضي الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، ولا تُغني فيها الشعارات والترهات والجماعات والأحزاب، ومدى صلابتها التنظيمية أو حجم جماهيريتها الآنية أو قدرتها الدعائية على إشباع الحاجات الديماغوغية للجماهير. إن هذه المسؤولية أخلاقية في المقام الأول؛ مسؤولية أخلاقية تجاه الله ثم الناس. وهذا حديث تال.