قضايا وآراء

الفلسفة الجوانيَّة.. نحو فلسفة عربية-إسلامية أصيلة

- CC0
أول ما قد يستفز القارئ المتفحِّص في كتاب: "الفلسفة الجوانيَّة"، للفيلسوف المصري الراحل عثمان أمين (المتوفى 1978م)؛ هو مسعى المؤلف تَسْكين نسقه الفذ هذا في السياق الناصري وأيديولوجيته، رغم أنها محاولة ظاهريَّة برانيَّة لم تؤثر ألبتَّة في مُجمَل النسق ولا بنيته. بيد أن هذا "التمويه" ينبغي ألا يصرفنا عن مُجمَل هذا الجهد البنائي الفذ، الجدير بالدرس والتمحيص، ومحاولة البناء على الصالح منه -وهو كثيرٌ-؛ لتدشين درس فلسفي عربي جديد.

وقد كان حريّا بالأجيال السابقة، الانتباه جيدا إلى هذا المعلِّم الكبير رحمه الله، والإفادة من مُنجزه الفكري، والبناء عليه؛ بيد أن الخصومات الأيديولوجية والسياسيَّة، والعُقَد والحزازات النفسيَّة؛ قد حالت دون ذلك، بل واصطنعت للرجل أعداء ألدَّاء في الوسط الفلسفي المصري؛ جاهدوا لطمر مُنجزه البنائي، كما جاهد آخرون -طوال العقود الأخيرة- لطمر مُنجز عبد العزيز حمودة النقدي؛ لحساب الحداثة المعاقة والنَّافِقين من كهنتها المرتزقة.

وقد تعرَّف ناشر الكتاب -وكاتب هذه السطور- إلى استعمال لفظتي الجوانيَّة والبرَّانية هذا، عبر ترجمات الأستاذ محمد يوسف عدس وكتاباته رحمه الله، الذي تتلمذ على عثمان أمين مباشرة في جامعة القاهرة، فأخذ عدس بأيدينا إلى استعمال أستاذه حتى استوعبناه، ثم عرَّفَنَا لاحقا على كتابه الماتع هذا، وعلى النظام الفلسفي الرائد الذي انبنى على هذا الاشتقاق اللغوي التجديدي، وعلى ما تفرَّع عنه من إدراك فكري-حركي حي؛ فدمج الاصطلاح في معجمنا تدريجيّا حتى صار منه.

الدائرة التوحيديَّة صيرورةٌ "مُستَقِلَّة" مُغلقة، وبتكرارها يتحدَّد العمر الحقيقي للإنسان؛ يتحدَّد بعدد دورات الفعل الصالح مذ خرج من قلب الفاعل المؤمن، وحتى بلوغه إلى قلب من أُهدي إليه. ورغم أن صيرورة التكليف هذه دائرة تكراريَّة مُغلقة، فإنها "تسيرُ" عكس الحداثة وعالمها الطوباوي على "طول الخط".

وبقطع النظر عن نيَّة أستاذنا عثمان أمين، إذ لم يُحاول فحسب المرور بهدوء تحت أنف الأيديولوجية المتسلِّطة في العهد الناصري وعدم استفزازها، بل حاول التواؤم معها برانيّا؛ فإن استعادة مركزيَّة الجواني في خِضَم البرَّانية المتوحشة للحداثة -ووجهيها الاشتراكي والقومي غير الإنسانيين-، جهدٌ عظيمٌ يُحمَد له بلا ريب.

يتجلَّى إدراك المؤلف لمركزيَّة الجواني وهيمنته في الإسلام؛ إذ تلمَّسه أولا في لسان الوحي العربي المبين، قبل أن يشرع في التأصيل له داخل النظام الأخلاقي للشرع الحنيف؛ بوصفه عصب الأخلاق الإسلاميَّة، حتى كأن حديث حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن رَأى منكم مُنكَرا فلْيُنكِرْه بيَدِه، فإنْ لم يَستَطِعْ فبِلِسانِه، فإنْ لم يَستَطِعْ فبِقَلْبِه، وذاك أضْعَفُ الإيمانِ"؛ تعيينٌ لمراتب الحركة الإسلاميَّة ومراحلها في الوجود، نزولا من أقصى مراتب الحركة البرانية الفعَّالة إلى أدنى مراتبها (القلبيَّة الواجبة)؛ التي تحفظ المقدرة الإنسانيَّة الجوانيَّة على الفاعليَّة، إذا ما تعذر الخروج بالفعل إلى الواقع البراني. أن يتشبَّث القلب بالحق تشبُّثا حقيقيّا، إذ ليس وراء ذلك شيءٌ من الإيمان؛ فإن الجواني هو أول الإيمان وطليعته ومُبتدأ أمره. بل إن هذا الجواني نفسه هو مبدأ رسالة الأمَّة الأميَّة التي أنزِل عليها الكتاب لاستنقاذها، حتى تستنقذ هي العالم به.

كذلك، يتجلَّى الإدراك عينه حين يسعى الأستاذ لإعادة تعريف التصوف الحق، بوصفه ليس مجرد "دَرْوَشة" ساذجة؛ وإنما هو إعادة صياغة للوجود من خلال انضباط صياغة الجواني على هدى الشرع الحنيف. وقد كانت حركات الإحياء الإسلامي، التي واجهت الهجمة الكولونياليَّة الغربيَّة إبَّان القرن التاسع عشر، وأفرزت أنظمتها السياسيَّة الخاصَّة (في الجزائر وليبيا والسودان والقوقاز والهند.. إلخ)؛ كلها حركات صوفيَّة أصيلة، تدور في هذا الإطار الصوفي "الصحيح"؛ الذي تحدَّر من تقاليد خلفها أولياء تُقضى أمورهم بقلوبهم وحدها. وفي هذه الحركات، يتجلَّى بعض إخلاص الجواني في اطراده حتى ينعكس انعكاسا برانيّا صادقا، وذلك ببناء سلطة اجتماعيَّة-سياسيَّة جديدة من أسفل؛ تنطلق من هذا الجواني وتُشكل به عالمها.

بل إن الشواهد كلها تؤكد أن الحركة المضادة، التي يتحرَّكها عالم الكفر الحداثي -هو الآخر- تقوم على أصل جواني -فاسد مريض- تنبثقُ منه وترتكزُ عليه، ولو أنكر صاحبها ذلك! فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها، تقتضي أن يبدأ الفعل الإنساني بما وقر في قلب فاعله؛ أيّا كان الفعل. ومهما كان أثر العالم البراني وثقله، وضغطه ومحفِّزاته، ودوره في صياغة الاعتقاد الجواني وإعادة صياغته مرارا؛ فما من شيء يقع في العالم البراني -بإذن الله- إلا وقد استقرَّ أولا في باطن فرد -أو أفراد مجتمع- وانعقد عليه قلبٌ -أو قلوب- فانعقدت عليه الأيدي إن شاء الله.

* * *

وعليه؛ كانت هذه "الفلسفة الجديدة"، التي يسعى هذا الكتاب الماتع لرسم بعض ملامحها؛ ليست مُجرَّد سفسطة نظريَّة أخرى، مبتوتة الصلة بالواقع؛ وإنما هي جزءٌ لا يتجزأ من الصيرورة الإنسانية الواقعيَّة، إن لم تكن -في الوقت نفسه- هي مُنطلقها الرباني ومُبتدأ أمرها. وربما تكفينا شواهد ثلاثة على أن "الفلسفة الجوانيَّة" ليست فلسفة نظريَّة بالمعنى التجريدي المبتَذَل، وإنما هي تجريدٌ بصيرٌ لصيرورة إنسانيَّة أزليَّة راهنة، وجزءٌ لا يتجزَّأ من معالجة الواقع المتجدد، وثمرة البحث الدؤوب لفيلسوفنا المؤمن عن فلسفة/ نهج/ نفثة توقظُ أمة، وتُنهضها من كبوتها؛ أي عن نهج للنظر والحركة في آن معا.

أول هذه الشواهد، أنها تنصبُّ على المجال الجواني للإنسان بوصفه مجال الحريَّة الحقيقي، الذي صانه الله عز وجل حتى من قهره سبحانه، بل وشرع جهاد الطلب وسنَّ تقويض الطواغيت لضمان هذه الحرية للكافر كما للمسلم؛ لئلا يُقهَر مخلوق ألبتَّة على اعتقاد لم يَنقَد إليه طوعا. وهذا على النقيض الكامل من "الحريَّة البرانية"؛ التي قيَّدها الشرع الحنيف بقيود شتَّى، حتى صار المجال البراني سجنا للمؤمن، كما في الحديث الشريف(1). بل إن الشرائع الوضعيَّة -هي الأخرى- لا تتعاطى إلا مع ما يُفرِزُهُ الإنسان في المجال البراني، مهما حاولت تقصي نيته عندما يخرج عليها ويتعدَّى حدودها. أما فضاؤه الجواني، وقلبه وشعوره؛ فإن "الشرائع" المستَقِرَّة كافَّة تُجاهد لصيانتها من القهر -ولو نظريّا-، وإن سمحت اليوم للدعايات المختلفة بالتلاعُب بها عوضا عن القهر والإكراه!

أما ثاني الشواهد، الذي ينبني على سابقه؛ فهو أن هذه الفلسفة تعُدُّ هذا الفضاء الجواني الحر للإنسان، هو مجال التديُّن الحقيقي ومناطه وملاكه، وأول تحقّقه إذا صدق؛ إذ لا يبدأ التديُّن إلا من الحريَّة الروحيَّة الحقيقيَّة، من الجواني، بيد أنه لا يقف عنده؛ على عكس ما يتوهَّم الغنوصيون، الذين يحسبون أن التديُّن "أمرٌ قلبي" لا يضر الإنسان معه مُخالفته كليّا في العالم البراني، بما أن الرب عندهم "ربُّ قلوب" فحسب! لكنَّ التديُّن الحقيقي بالتوحيد، الذي يبدأ جوانيّا؛ يجب أن يمتد برانيّا حتى يصير البراني محض انعكاس صادق للجواني -كما يُقرر فيلسوفنا المؤمن في غير موضع- أو يصير -على الأقل- تجسيدا لمُكابدة صادقة ودائمة لتحقيق هذا التطابُق العصي. أما انفصالهما، أو غياب البداية الجوانية (النيَّة)، أو البدء بالبراني (تشريعا وتنظيما)؛ فكلها تشوهات لا يرتكس إليها الإنسان إلا بهيمنة أنماط الشرك المختلفة.

وعليه، صار الشاهد الثالث اطرادا منطقيّا لهذه المتتالية: إيمان هذا النظام الفلسفي بأنَّ كل التحقُّق الإنساني بالتوحيد تحقُّقٌ جواني بالأصل، وأن أي تجلّ حقيقي أو مصداق براني له -مما تعبَّدنا الله به من صالح الأعمال-، هو تابعٌ له وعالة عليه وفرعٌ منه. بل إن مدى إخلاص القلب واستقامة النية، هو ما يُعين السالك على التحقُّق بالتوحيد برانيّا في كل حركته؛ فإنَّ صدق ما يطَّلع عليه الله وحده هو ما يُطهِّر كل ما يطلع عليه الناس ويُزكيه؛ إذ ينظر الله تعالى إلى القلوب والأعمال، ولا يُحاسب على النيَّات سواه.

هذه الدائرة التوحيديَّة صيرورةٌ "مُستَقِلَّة" مُغلقة، وبتكرارها يتحدَّد العمر الحقيقي للإنسان؛ يتحدَّد بعدد دورات الفعل الصالح مذ خرج من قلب الفاعل المؤمن، وحتى بلوغه إلى قلب من أُهدي إليه. ورغم أن صيرورة التكليف هذه دائرة تكراريَّة مُغلقة، فإنها "تسيرُ" عكس الحداثة وعالمها الطوباوي على "طول الخط"؛ إذ إن جوهر الحداثة البروتستنتية المهيمنة هو: طهوريَّة طوباويَّة برانيَّة؛ تعقيمٌ للبرَّاني بغير كثير اكتراث للجواني وفساده، أو بإهمال مُتعمَّد له؛ كأنه رد فعل على شدَّة عناية الكاثوليكيَّة بالجواني، وتكريسها قذارة الواقع البراني وتمام اضمحلاله في هذا السبيل.

تقديم أولويَّة الجواني على البراني، وهيمنته فوقه؛ نقضٌ للطوبيا التي أمرَضَت الفلسفات النظريَّة، وخروج من أوهامها عن الفردوس الأرضي، الذي كانت ترتكس به دوما -عند التنزيل- إلى حالة أيديولوجيَّة مشيحانيَّة؛ مُناقضة لكل الأسس "العقلانيَّة" التي انبَنَت عليها الفلسفة النظريَّة ابتداء.

وقد اعتنى أستاذنا المُلهَم علي عزَّت بيغوڤيتش رحمه الله بتشريح ملامح هذه المساحة من الحركة -الجوانيَّة- بين الماديَّة والإسلام والكاثوليكيَّة، حتى وجدنا أن حُسن تعريب مُعجمه، وتسكين تصوراته في المجال الفكري والتداولي العربي؛ لا يمكن أن يستقيم إلا بتوظيف الاصطلاح الذي "سكَّه" عثمان أمين، ومن ثم؛ كان توقيت نشر هذا الكتاب مُتزامنا مع إعادة نشرنا -في تنوير للنشر والإعلام- للترجمة الجديدة لآثار عزَّت بيغوڤيتش الكاملة؛ فهذا "نصٌّ تكميلي" شديد الأهميَّة لقراء كتب المفكر البوسنوي الأجل. وسيكتشف القارئ ذلك أيضا عند إفادته من هذا الاصطلاح الفذ، في أثناء اطلاعه -قريبا إن شاء الله- على ترجمتنا الجديدة والكاملة لآثار العلامة محمد إقبال اللاهوري، الذي لم يَنَلْ -هو اﻵخر- من قبل حظّا من العناية الحقيقيَّة في اللغة العربيَّة؛ بوصفه مُفكرا رائدا من أبرز مفكري الإسلام إبَّان القرن العشرين.

وعليه؛ فإننا إذا كنا نَعُدُّ هذا الكتاب الماتع نصّا تكميليّا مُهمّا، أنتجهُ عَلَمٌ مُتفلسفٌ من أعلام المصريين وروادهم إبَّان القرن العشرين؛ فهو ليس مُجرَّد نص تكميلي يُمكن الاستغناء عنه، بل هو نصٌّ تأسيسي محوري، لا يُمكن التعاطي مع نصوص بعض المفكرين الكبار دون العروج عليه، واستيعابه، وإنزاله المنزلة الملائمة له؛ لما يمنحنا من أبعاد -لغوية ومفاهيميَّة- تُضيف إلى نصوص هؤلاء الكبار. فهو من النصوص التي تُثري غيرها، وتَحُلُّ شفرتها، وتزيد مقدرتها التفسيرية، وتُعظِّم فائدة المدوَّنة كلها في دراستنا لتاريخنا الفكري الحديث.

بيد أن كونه نصّا تكميليّا لا ينزع عنه قيمته الذاتيَّة، ولا يطعن في استقلاله وأصالته الفكريَّة، وذلك بوصفه محاولة صادقة لإخراج إنسان الحداثة الهلوع من ضيق البراني المادي وثقله، إلى سعة فضائه الجواني المغيَّب، بل وتقديم هذا الجواني -بكل طريقة- على الطواغيت البرانية، التي تحفُّ بالوعي وتغص بها الحياة اليوميَّة. وكفى بها من مهمة إنسانيَّة ربانيَّة؛ تُطهِّرُ الوعي من أدران ما علق به، وتُسهم في التخفيف عنه، لينسلخ يوما من الواقع الذي أثقَلَ وجوده وثقُلَ على روحه.

إن تقديم أولويَّة الجواني على البراني، وهيمنته فوقه؛ نقضٌ للطوبيا التي أمرَضَت الفلسفات النظريَّة، وخروج من أوهامها عن الفردوس الأرضي، الذي كانت ترتكس به دوما -عند التنزيل- إلى حالة أيديولوجيَّة مشيحانيَّة؛ مُناقضة لكل الأسس "العقلانيَّة" التي انبَنَت عليها الفلسفة النظريَّة ابتداء. وعثمان أمين بهذا الإنجاز وحده، ينقل المحدَثين إلى دائرة أخرى للتفلسُف، تقتربُ كثيرا من دائرة حجَّة الإسلام الغزالي، الذي يُكثر من الاستعانة به والاستشهاد بنصوصه. إنها دائرة خاصَّة بالتوحيد، بما أنها تقوض الأوهام النظريَّة المجرَّدة، والمُثُل النظريَّة -الافتراضيَّة- المعادية للتاريخ، التي تفصل الواقع عن صيرورة النظر في شؤونه، وتُعيد الاعتبار للمنطلقات الإنسانيَّة-الربانيَّة؛ بوصفها مبدأ التفلسُف الحقيقي، والموجِّهُ -إبَّان صيرورته- إلى غايته.
__________
(1)- أخرج مسلمٌ في صحيحه، من حديث أبي هريرة؛ أن حضرة سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ، وجَنَّةُ الكافِرِ".