تعد قنوات ما يسمي بالشرعية، والتي انطلقت في المهجر بعد الانقلاب العسكري على الرئيس
المصري المنتخب محمد مرسي في تموز/ يوليو 2013، هي وسيلة التواصل الوحيدة لقادة الحراك ضد الانقلاب، من أحزاب وأفراد ومؤسسات وجماعات وتنظيمات؛ مع الجماهير المصرية في الداخل والخارج، خاصة بعد توقف كافة أشكال الحراك الثوري بالبلاد.
فهل نجحت تلك القنوات في اكتساب لون ما من أنواع
الإعلام الثوري المعروف؟ هل استطاعت أن تفرض رؤيتها الثورية (إن كان ثمة رؤية)؟ هل أدت - ولو جزئيا - دورها المنوط بها في عملية التوعية اللازمة لتعريف الرأي العالم المصري والعالمي بمساوئ الانقلاب، وحث الناس على مقاومته بكافة الوسائل الثورية المتاحة والإبداع في التعبير عن رفضه؟ هل يمكن تصنيف تلك القنوات وإدراجها تحت مظلة الإعلام الثوري؟ أم أنه يصنف كإعلام معارض لنظام فرض وجوده بقوة السلاح، فصار أمرا واقعا لا خلاص منه، وكل المطلوب هو تحسين أوضاع المواطن تحت سيف حكمه؟
إعلام ثوري أم إعلام معارض؟
بالنظر والتأمل للمادة المقدمة على مجموعة القنوات المحسوبة على الشرعية الثورية والتاريخية والدستورية، بموجب الانقلاب الغاشم على أول تجربة ديمقراطية، تجد أنك لا تستطيع حقيقة أن تصنف أيا من تلك القنوات على أنها قناة ثورية، بل وقد تجد أن بعضها يدعم أركان الانقلاب بالتعاطي معه وكأنه أمر واقع، وكل ما يقدم ما هو إلا معارضة لحاكم مفروض بقوة سلاح الجهاز الأمني المصري، والمدعوم بالمال من مجموعة الدول المحاربة لثورات الربيع العربي خوفا وطمعا؛ خوفا من امتداد
الثورة التي نشبت في ربوع بلاد العرب شرقا وغربا حتى حاصرت قلب الجزيرة العربية، وطالت دولة البحرين وتم إخمادها في مهدها بالقمع، وطمعا في رضى الشريك الصهيوني الذي فضح عمالة معظم هؤلاء الحكام باستماتته في الدفاع عنهم، والذي يعادي الشعوب العربية والمسلمة، ويسعى بكل الوسائل لإنجاح عمليات القمع والتجهيل وتغييب الوعي؛ ليقينه في تهديد وجوده إذا وعت تلك الشعوب لحضارتها وعادت لعمق هويتها، واستعادت ريادتها ومسؤوليتها في إدارة شؤونها الخاصة. وبما أن الحكم العسكري الذي امتد لسبعين سنة كان مسؤولا عن إدارة شون البلاد إدارة كاملة، خاصة في مجالي الإعلام والتعليم، وهما أكثر محورين يشكلان وعي الشعوب وتوجهاتها، فقد نشأ جيل ليس مغيبا وحسب، وإنما تم تشكيله بإرادة عسكرية بناء على رغبة الممول أو الحاكم الفعلي، وهو المستعمر الذي ترك رؤوسا تحكم باسمه وتحقق بلا ثمن رغباته. والحركة الإسلامية التي تنتمي إليها تلك القنوات، ولو ظاهرا، هي جزء من ذلك المجتمع الذي حرم طويلا من الحرية والانطلاق الفكري والاستيعاب والسعة، وتلك المعاني التي تنبني عليه الدول والحضارات. وبرغم محاولة الانعتاق من دائرة العبودية والاستسلام والانبطاح والدوران في فلك الحكام؛ بوضع مناهج تعليمية خاصة في محاضن تربوية معدة إعدادا عاليا، إلا أن تلك المحاضن لم تستطع أن تعزل أفرادها عن المناهج التعليمية العامة، والتي يتلقاها في المدارس والجامعات، فتأثر بشكل كبير بالآلية المجتمعية، من الحرمان من العمل السياسي لفترات طويلة بعد احتكار الحاكم العسكري السياسة ونسبها لأهل الثقة، كذلك العمل الإعلامي الذي يخضع بشكل كبير ومباشر لجهات أمنية، فصار المستوى الإعلامي حين أتيحت الفرصة للحركة الإسلامية لإنشاء قنوات تتحدث باسمها؛ ضعيفا بالنسبة لكل من تلقى تدريبا أو تعليما خارجيا.
ولذلك أيضا لم تستطع الحركة الثورية بقيادة الحركة الإسلامية أن تقدم إعلاما ذا لون واضح وتوجه محدد نستطيع أن نسمه بصفة الثورية، بل هو أقرب ما يكون للمعارضة.
الإعلام الثوري تغيير قناعات وبناء مفاهيم
الإعلام عامة هو مرآة للمجتمع يعبر عن مشكلاته ويساهم في طرح حلول على من بيده الأمر، ويقوم بدور أساسي في تثقيف الناس وتوعيتهم ونقل الأخبار لهم.. إذا كان إعلاما هادفا يحمل رسالة سامية؛ فهو يبني قناعات ويغير مفاهيم على أسس صحيحة ودقيقة. وبما أن المنطقة العربية وفي قلبها مصر تمر بحالة غليان ثوري منذ العام 2011، تخمد الثورة وتفور في موجات تتأثر مدا وجزرا بحالة القمع الأمني والأداء الاقتصادي الرديء الذي أدى لقتل الأبرياء وتجويع الشعوب، فليس مطلوبا من تلك القنوات التي نشأت خصيصا لمقاومة الانقلاب أن تصنع ثورة، فليست تلك مهمة الإعلام، وإنما مهمتها حفز الجماهير ودفعها للثورة، وفضح الانقلاب وممارساته، وتقديم برامج تليق بخطورة المرحلة التي فقد فيها معظم الثوار فتفرقوا بين شهيد ومعتقل ومهاجر ومطارد، وتغيير مفاهيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتعريف الشعوب بحقوقها، وحدود الحاكم، خاصة في البرامج المسماة "بالتوك شو"، والتي تقدم في شكل يدعو سطحي لا يجذب مشاهد، ولا يغير قناعات مخالف. وفي هذا الإطار، يمكن التأمل في الأداء الإعلامي الاحترافي في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وكيف استطاع الإعلام أن يحولها لقضية رأي عام عالمي قبل الأداء السياسي للنظام التركي، رغم كل العوامل المساعدة التي ساعدت الإعلام لاستثمار تلك القضية؛ من كون خاشقجي شخصية ليبرالية، علاوة على أنه يعمل في صحيفة عالمية، إلا أن تلك العوامل وحدها لم تكن كافية لتدويل القضية بهذا الشكل الذي تابعناه لولا أداء إعلام قوي ومستميت.
فكم من القضايا العالمية كان من الممكن أن يصنعها إعلام الشرعية بمقتل العشرات والمئات من الشخصيات العامة ظلما داخل السجون؛ بمنعهم من التداوي أو التصفيات داخل الشقق السكنية؟
كم من القضايا العامة والعالمية الإنسانية التي كان من الممكن صنعها بعد مذبحة رابعة، وفي ذكرى تلك المذبحة من كل عام؟
كم من القضايا التي يمكن بها التأثير على الرأي العام العالمي على المستويين السياسي والإنساني؛ بنقل حياة الآلاف من الأسر التي تضررت بفعل تغييب عائليها خلف القضبان أو بالموت قتلا؟
كم من الندوات والمؤتمرات والمسابقات التي يمكن تنظيمها في إطار عملية التوعية التاريخية، خاصة أنها قنوات تتمتع بحرية لا يتمتع بها ثوار الداخل؟
كم من المساحات التي يمكن كسبها للتبشير بالفكرة الإسلامية والتعريف بها لنزع الخوف من قلوب من يعادونها بسبب الجهل بها؟
سوء تخطيط أم أداء متعمد؟
الحقيقة المؤلمة أنه لم تنتقل تلك القنوات بالحالة الثورية التي كانت قائمة على الأرض بالفعل؛ أي خطوة للأمام، مما يدعوك للشك بأن هناك جهة ما تأبي إلا أن يكون إعلاما بغير هدف، وأن تلك الجهة مستفيدة من بقاء الوضع على ما هو عليه. وهنا يكون لزاما على القائمين على تلك القنوات تقديم مبرر لتلك الحالة الباردة من الأداء الإعلامي (المعارض بهدوء). ولأنني أستبعد مسألة التعمد للفشل الذريع للأداء الإعلامي لقنوات الشرعية، فهناك احتمالان غير ما سبق ونوهت إليه من أنه جزء من الفشل المجتمعي العام، نتيجة تغييب العسكر لكل فئات المجتمع من ممارسة أي دور حقيقي يكون بمثابة التدريب العملي في كل مجال:
الأول: سوء التخطيط.. فليس هناك خطة طويلة المدى أو قصيرة المدى بهدف عام وأهداف مرحلية تتغير بتغير الظروف العامة كل يوم. فعلي سبيل المثال، يجب أن يكون هناك هدف عام، وهو تأهيل الشعب ودفعه لإسقاط الانقلاب وتوعيته لعدم استدراجه لانقلابات أخرى، وذلك بعدة إجراءات؛ تلك الإجراءات هي مجموعة البرامج المقدمة والقابلة للتغيير في كل فترة حسب قياس أثرها وانتشار حالة الوعي بالمجتمع. ويقينا أنه لا يوجد مثل ذلك التخطيط داخل أي قناة من تلك القنوات، وإنما هو أداء عشوائي يخضع لعدة متغيرات منها أداء النظام الانقلابي ليس أكثر. وقد يتحجج البعض بنقص التمويل، وأنه لا يكفي لإعداد حزمة برامج تؤدي الغرض الثوري.. والجواب أن ما ينفق على البرامج المقدمة بالفعل يكفي، وربما زيادة، لتغطية الهدف من إنشاء تلك القنوات.
إن المحنة التي تمر بها البلاد والأمة قاطبة تستدعي التجرد التام للخروج من ذلك المنعطف الخطير، والأمر ميسر وليس مستحيلا لمن يريد. إن خارطة البرامج المقدمة إن لم تكن مبنية على منهجية ثورية يقوم بها مختصون مدربون على أعلى مستوى من التدريب؛ فيكون من الحمق وإهدار الوقت والمال والطاقة الاستمرار في بثها، والجميع مسؤولون أمام التاريخ والأمة، وأولا وأخيرا أمام الله. فانتبهوا قبل أن تدهسكم غضبة الجماهير وحركة التاريخ التي لا ترحم أحد.