في المعبد اليهودي بأمريكا قُتل أبرياء مسالمون لأنهم يهود، وفي فلسطين يقتلع شعب كامل ويمارس ضده التطهير العرقي لأنهم ليسوا يهوداً! مفارقة تحكي إخفاق البشرية في الاهتداء إلى طريقة مثلى للتعايش السلمي والالتقاء على كلمة سواء، والاعتراف بحق الآخر المختلف أن تكون له ذات الحقوق التي يتمتع بها الشبيه. والمثير للسخرية أن البشر يقتل بعضهم بعضاً ويحاكم بعضهم بعضاً على خيارات لم يكن لهم يد فيها، فاليهودي ولد فوجد أبويه يهوديين، والمسلم ولد فوجد أبويه مسلمين، والهندوسي ولد فوجد أبويه هندوسيين، تماماً كما أن أحدنا لم يختر لون بشرته أو لغته أو موطن ولادته.
دائرة الاختيار الحر في الحياة الإنسانية أضيق مما نتصور، فالإنسان نسيج جيناته الوراثية وتربية والديه ومجتمعه وثقافته وبيئته السياسية والاقتصادية. وبعد تحييد كل هذه العوامل، تبقى مساحة تتجلى فيها الفروق الأخلاقية بين الناس وفق محددات الثقافة والمجتمع؛ فيفلح من زكاها ويخيب من دساها.
تبقى مساحة تتجلى فيها الفروق الأخلاقية بين الناس وفق محددات الثقافة والمجتمع؛ فيفلح من زكاها ويخيب من دساها
إن من الجهل أن يتعصب المرء لطريق لم يكن السير فيه ثمرة قراره الحر، فكيف إذا أضاف إلى تعصبه محاولة حمل الناس جميعاً على السير في هذا الطريق؛ ونفي حق أي إنسان في اختيار طريق آخر، بل ونفي حق من اختار طريقاً آخر في الوجود عبر وسائل الإلغاء المادية والمعنوية.
يعزز القرآن بذور التعدد الإنساني، ويمنح هذا التعدد شرعيةً وجوديةً عبر نسبته إلى الله تعالى وإعطائه صفة الحتمية التاريخية. فالناس لن يتحولوا منذ أن خلق الله آدم إلى يوم القيامة؛ إلى أمة واحدة، وحين يلامس هذا المعنى قلب المؤمن، سيدرك عبثية الأسلوب الشمولي الإكراهي الذي يسعى إلى حمل الناس كلهم على طريق واحد. فهذا السعي مناقض لسنة الله في عباده: "أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً".. "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ".
مما يحدث الالتباس في تعامل المسلمين مع مسألة "الآخر"؛ سوء فهم مصطلح "الكفر". فالفهم الشائع أن الكفار هم أتباع الأديان الأخرى من غير المسلمين
غير أن من الجدير ملاحظته أن هناك نوعين من الآخَر وفق الرؤية القرآنية، وهو التمييز الذي يغيب عن كثير من المسلمين. فهناك الآخَر الأخلاقي، وهو الذي ينبع اختلافه عنا من طبيعة الاجتماع البشري. فالناس أمم كثيرة ولكل أمة كتابها، وكل الأمم منهم الصالحون ومنهم القاسطون. لذلك، فإن انتماء الفرد لأمة دون غيرها لا يعطيه ميزةً ولا يطبعه بإثم إلا بالقدر الذي يفعل ذلك لونه واسم عائلته، لذلك لا يحاكم الفرد إلى الإطار الثقافي والديني الذي ولد فوجد نفسه داخله، بل يحاكم إلى كسبه الذاتي؛ هل كان صالحاً أم مفسداً؟ محسناً أم مسيئاً؟ هل كان يقظ الفكر متبعاً للهدى أم معطلاً عقله متبعاً لما وجد عليه آباءه؟ هل كان روحانياً مؤمناً بعاقبة الخير والشر، أم كان مسرفاً غارقاً في الشهوات والأهواء؟ هذان هما النجدان اللذان يمكن لأي إنسان في شروط أي ثقافة وشريعة أن يختار أحدهما، فمقياس المفاضلة هو القرار الحر للإنسان في ما يملك، وليس التصنيف المسبق الذي دمغ به قبل ولادته.
ومما يحدث الالتباس في تعامل المسلمين مع مسألة "الآخر"؛ سوء فهم مصطلح "الكفر". فالفهم الشائع أن الكفار هم أتباع
الأديان الأخرى من غير المسلمين، وبذلك فإن المسلم في تعامله مع الآخرين يكون مكبلاً بتصورات سلبية تجاههم؛ يستمدها من الآيات التي تتوعد الكافرين بالعذاب الأليم والخزي والضلال، وتدعو إلى المفاصلة معهم، فإذا قرر المسلم المحكوم لهذا الفهم الشائع أن يكون متسامحاً مع غير المسلمين، فعل ذلك من منطلق سياسي، ربما لتأليف قلوبهم وتحبيب الإسلام إليهم، وربما أيضاً للرحمة الإنسانية التي تملأ قلبه، لكن دون أن يكون قادراً على التحرر من الاعتقاد بأن هؤلاء الآخرين ضالون ومغضوب عليهم وأنهم في العذاب خالدون.
انتماء الفرد لأمة دون غيرها لا يعطيه ميزةً ولا يطبعه بإثم إلا بالقدر الذي يفعل ذلك لونه واسم عائلته، لذلك لا يحاكم الفرد إلى الإطار الثقافي والديني الذي ولد فوجد نفسه داخله، بل يحاكم إلى كسبه الذاتي
لكن القرآن يعالج مسألة الكفر في سياق مغاير، فالكفر كما يأتي في القرآن ليس هويةً قوميةً، بل هو أفعال اختيارية. الكفر هو التكذيب بالآيات البينات، وهو الجحود والاستكبار، أي أن الكفر موقف اختياري يقرره الإنسان بعد وضوح الحق أمامه، وبذلك فهو ليس تصنيفاً مغلقاً، بل مشكلة أخلاقية متذبذبة داخل النفس البشرية: "هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان".
في ضوء هذا الفهم لا حرج أن يرفض الإنسان الكفر ويبغض الكافرين دون أن يمس ذلك بمبدأ قبول الآخر، لأنه لا يرفض قوميةً أو مذهباً بالجملة، بل يرفض أفعالاً غير أخلاقية يقوم بها أفراد أو جماعات؛ تتمثل في التكذيب والعناد والجحود والاستكبار والإفساد، وهي أفعال لا يتصف بها كل غير مسلم، لأن في كل الأمم صالحين قوامين بالقسط.
يمنح القرآن شرعيةً للآخر في آيات بينات في سورة المائدة فيقول: "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه"، وعن التوراة يقول: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ"، ثم يجمل بعد ذلك بآية بينة عامة: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".. هذه الآية التي تأتي في سياق الحديث عن التوراة والإنجيل تقول إن الله تعالى لم يجعلنا أمةً واحدةً، وأن لكل منا شرعةً ومنهاجاً ثم تدعو الناس إلى استباق الخيرات، فأي دليل أوضح من هذا على اعتراف القرآن بتعدد الشرائع والأمم، ليس اعترافاً بوجودها وحسب، بل منحاً للشرعية إياها بدعوة أتباعها إلى استباق الخيرات وفق الهدى الذي تتضمنه كتبهم.
كل مجتمع بشري متسق مع نظامه وتاريخه، وغالب البشر يولدون ويموتون دون أن يغادروا منظوماتهم المجتمعية
هناك من يقول إن اعتراف القرآن بالشرائع الأخرى يتعلق بزمن ما قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، لكن لا يبدو أن هذا الفرق جوهري عند التدقيق، إذ إن العلة التي كانت تدفع الناس إلى اتباع الشرائع الأخرى قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا تزال قائمةً إلى اليوم في الأمم الأخرى. فكل مجتمع بشري متسق مع نظامه وتاريخه، وغالب البشر يولدون ويموتون دون أن يغادروا منظوماتهم المجتمعية، وأكثر الناس إن سمعوا بمحمد والقرآن فإنما هو سماع عابر كسماع أحدنا بالحكيم الصيني لاو تسو، سماع لا يستفز المرء إلى التفرغ سنوات لقراءة كتابه وسيرته، وربما علم أحدهم أن محمداً رجل أخلاقي فاضل مثل الحكماء الذين مروا عبر التاريخ وأعجب بسيرته، لكن لن يخطر بباله أن عدم التحول الجذري إلى شريعته سيودي به في نار جهنم خالداً فيها.
لذلك، فإن الأقرب إلى العقل والفطرة حين نقرأ في سورة البقرة قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"؛ أن نفهمها بدلالتها المباشرة، وهي أن كل من آمن بالله وعمل صالحاً، بالمعنى الواسع لعمل الصالحات، سواءً قبل بعثة النبي محمد أو في زماننا هذا فهو من الناجين، حتى وإن لم يكن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لا فضل لنا على الناس بأننا ولدنا فوجدنا أنفسنا في أمة محمد، ولم يخطر ببال أحدنا أن يبحث في دين غير الذي ورثه عن آبائه، كذلك ولد غيرنا فوجدوا أنفسهم في أمم أخرى.
هذا هو النوع الأول من الاعتراف بالآخر الأخلاقي، لكن القرآن يذهب أبعد من ذلك، إذ يعترف أيضاً بالآخر غير الأخلاقي ويعطيه حق الحياة وينزع عن المؤمنين حق الوصاية عليه، دون أن يعني ذلك إقراراً بموقفه الباطل. ومقصدي من تعبير "الآخر غير الأخلاقي" هو الذي لا يختلف معنا انطلاقاً من التعدد الطبيعي بين الأمم، بل يختلف لأنه رفض الإيمان بعد تبين الآيات له وجحد واستكبر، ومع ذلك لا يعطي القرآن المؤمنين حق محاسبته: "وما أنت عليهم بجبار".. "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، وما دام هذا الكافر مسالماً لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجهم من ديارهم، فإنه يبقى جزءاً من النسيج المجتمعي، وتكون العلاقة معه على أساس
التعايش المشترك: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".
ما دام هذا الكافر مسالماً لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجهم من ديارهم، فإنه يبقى جزءاً من النسيج المجتمعي، وتكون العلاقة معه على أساس التعايش المشترك
إن دعوة الناس إلى القرآن وشريعة النبي محمد هي دعوة محمودة في سياق الحوار الإنساني في أجواء السلام والتعايش المشترك، يحفزها حب المؤمن في مشاركة الخير الذي تذوق حلاوته مع الناس، لكن أن تكون هذه الدعوة منبعثةً من نفس مطمئنة واثقة تعلم حكمة الله في اختلاف الناس، وليس نفساً مضطربةً تحركها الكراهية تريد إخضاع الناس لدين واحد. فالسعي لإخضاع الناس لدين واحد ليس موقفاً دينياً، وإن تلبس بالدين، بل هو موقف استعلائي على سنة فرعون والأحزاب: "وإنا فوقهم قاهرون".