إنني أتصور الآن الكثير من المتابعين للمنطقة العربية والشرق الأوسط؛ ينظرون إليها وهم يضحكون على ما يدور فيها خلال الأحداث الجارية، والمواقف التي تحدث فيها، والصراع الإعلامي من دول القنوات التي ابتلانا المولى عز وجل بها، سواء في العربية أو الجزيرة أو سكاي نيوز، والتجاذب والتنابذ بينهم. وفي تقديري أن المشكلة هذه المرة هو وجود تركيا على خشبة نفس المسرح؛ لأنه كان من المعتاد أن يكون هذا الصراع بين دول الخليج وقنواتها التلفزيونية. وهناك العديد من الأمثلة خلال الماضي القريب، وكان آخرها ما أطلق عليه بحصار قطر. فالغربي يبتز الجميع ويستغلهم جميعا، وأول المبتزين السيد الساكن في البيت الأبيض والجميع في هذه الدول تتملقه. وكما ذكرت، فان ما يحزن هو وجود تركيا داخل تلك الدائرة هذه المرة، وتنتظر هي أيضا ما سوف يقوله سيد البيت الأبيض الثلاثاء!! فهل هذا مؤشر دخول تركيا في تغيرات المنطقة القادمة؟
منذ أكثر من شهر ونصف، يعيش أغلب العرب وبعض الأتراك في أزمة منذ وقوع جريمة اغتيال الأخ الصحفي جمال
خاشقجي رحمه الله، في القنصلية
السعودية بإسطنبول. الحادث بلا أدنى شك حادث مؤلم وغير آدمي وجريمة نكراء. وأعتقد أنه المقصود به كانت تركيا، لذلك كان رد الفعل التركي عنيفا حيث فطنوا لذلك. ولكن إذا أردنا أن ننظر نظرة متأنية للأحداث، نجد أنه وقع العديد والعديد من الأحداث والجرائم النكراء في عالمنا العربي والإسلامي ولم ينتبه لها الكثير، فهل نتذكر جريمة رابعة العدوية وقتل ما يزيد عن ألف من الشباب والفتيات في الميدان وحرق جثثهم وإلقائها في حاويات القمامة، بأمر من السيسي. ومع ذلك تم استقباله في أوروبا والغرب والشرق.. وما يحدث في اليمن ووفاة الأطفال يوميا من الجوع والمرض. فهل يتذكرهم أحد؟ وبالتأكيد لا يمكن عدم ذكر سوريا والسوريين والأحداث المؤسفة التي يعيشونها منذ أكثر من سبع سنوات. فهل يتذكر أحد الطفل أيلان الذي مات غريقا خلال محاولة هروبه مع عائلته من الجحيم السوري؟ علما بأن كل ذلك كان على الهواء مباشرة وليس تسريبات!!
لقد بدا الحادث باختفاء خاشقجي دخل القنصلية، وخرج أم لم يخرج.. ومحمد بن سلمان يقول خرج.. وتركيا تقول لم يخرج، وتتساءل عن شريط خروجه.. والسلطات التركية بالتأكيد كانت لديها التسجيلات الخاصة بالقنصلية، وتعلم بشكل يقيني أنه تمت تصفيته داخل القنصلية، كما أثبتت التسجيلات لاحقا، ولكن لم تعلنها.. قد يكون ذلك بسبب تخوفها من أن يثار حولها قضية التجسس على المباني الدبلوماسية في تركيا ولكن أخيرا صرحت بشكل غير رسمي بأنها لديها تسجيلات عما كان يجرى في القنصلية. فهل لديها أيضا تجسس على الأماكن الدبلوماسية والسفارات الأخرى؟ وبدأت التسريبات تتوالى من الاستخبارات التركية عن الحادثة.. عن فريق قادم من الرياض في طائرات خاصة لتنفيذ عملية القتل في تركيا. ثم كانت التسريبات عن عملية التمثيل بالجثمان للتأكيد على بشاعة الجريمة، وتوالت التسريبات التركية، وبعضها كان يصدر من صحف أمريكية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست، وأخيرا ما ظهر عن دور محمد دحلان (الإمارات) وفريق تابع له في الجريمة، وبالتالي لن يكون محمد بن سلمان وحده ولكن يقف بجانبه محمد بن زايد، لتكتمل الصورة.
ويعيش العرب والمسلمين في المنطقة في معضلة بسبب قتل جمال خاشقجي.. من يسمع كلام الجزيرة ويصدق قطر، أو يسمع كلام العربية وسكاي نيوز ويصدق السعودية والإمارات.. أما الغرب (أوروبا وأمريكا)، فيقف متفرجا، والبعض يضحك على العرب والمسلمين، والأموال التي رزقهم الله بها تنهال من على أسيادهم في الغرب. وهذا يدفعنا إلى الحديث عن التسريب الذي نشرته إحدى الصحف بأن أحد المشاركين في عملية القتل اتصل بأحد الأشخاص في الديوان الملكي السعودي وقال له "أخبر سيدك" بأن المهمة انتهت. ومع أن اللفظ المستخدم عربي، ولكن حتى الجزيرة عندما تذيع التسريب تقول أخبر "رئيسك". ومدلول مصطلح "الرئيس" يختلف عن مصطلح "السيد"، وهذا يجعلنا نتساءل عن دلالة استخدام هذا المصطلح. وهذا في تقديري يدل على كيفية النظرة التي ينظر بها بعض السعوديين بأنهم عبيد عند ملوكهم، وهذا ليس في السعودية فقط، ولكن في كل منطقة الخليج تقريبا. كما أنه يعبر عن إحساس الحكام في المنطقة بالعبودية للسيد الأبيض، وبالتالي يريد أن يشعر بأنه السيد عند عبيده.
وتركيا حتى الآن لم تذكر اسم محمد بن سلمان ودوره في عملية القتل، وكانت تؤكد دائما (وحتى على لسان الرئيس أردوغان) أن هناك جهة عليا (ليس الملك سلمان نفسه) هي من تقف وراء الجريمة، ولا أدري لماذا؟ لذلك سُرت تركيا سرورا شديد بأن التصريح بالاسم جاء من تسريبات عن تقييم وكالة المخابرات الأمريكية ومن المستشار الأمريكي للأمن القومي، أحدها ينفي أنه محمد سلمان، والآخر يشير إليه بأنه صاحب أمر القتل. والسؤال الملح الذي ينتظر اغلب العرب وتركيا الإجابة عليه من سيد البيت الأبيض: هل هو محمد بن سلمان أم أنه سيد آخر في الديوان السعودي؟ وللأسف حتى تركيا تقف هذا الموقف!! وأتصور أن السؤال يجب أن يكون: هل هو محمد بن سلمان أم أنه النظام الذي أتى بابن سلمان نفسه؟ والدليل على ذلك، الجريمة التي وقعت على الأراضي البريطانية، وقتل أحد المواطنين الروس عام 2016 بأمر من الرئيس بوتين، كما توصلت التحقيقات البريطانية، فيما تكررت المحاولة لقتل مواطن روسي آخر في بدايات هذا العام في بريطانيا.
وليس بوتين أو محمد بن سلمان وحدهما، فمن قبل كان القذافي وعيدي أمين وعبد الناصر؛ الذي كان يشاهد ويحضر شخصيا عمليات التعذيب والقتل التي كان يتعرض لها الإخوان في السجون، كما ذكرت إحدى الأخوات أن التعذيب الذي تتعرض له في سجون الإمارات الآن يدفع بعض المعتقلات إلى الانتحار، وأن الأمر بالتعذيب يأتي من محمد بن زايد نفسه. وهذا يؤكد مرة أخرى أنه حتى مع غياب محمد سلمان سيأتي "X" بن "Y" آخر، ويقوم بنفس التصرفات، طالما النظام الذي أتى به وبهم هو نفسه، وطالما الجميع عبيد عند سيد البيت الأبيض.
والله المستعان وهو يهدي السبيل.