جريمة الحبس الانفرادي

في رواية "لاعب الشطرنج"، للأديب النمساوي ستيفان زفايج، يتعرض أحد رموز العائلة النمساوية المالكة للاعتقال على يد جهاز الأمن الألماني "الغستابو"، واحتجز في فندق راقٍ لأكثر من ستة أشهر. كاد خلالها هذا الرجل أن يفقد عقله بسبب عدم اتصاله مع أحد سوى المحققين، لكنه استطاع تهريب كتاب عن الشطرنج أنقذه قليلا من هذه العزلة التي أوشكت أن تذهب بعقله، وهو الأمر الذي يعلق عليه مترجم الرواية الأديب يحيى حقي بالقول إن هناك تحولات نفسية وبيولوجية مرعبة مر بها هذا الرجل؛ الذي أقنع القارئ بأن أقسى تعذيب للإنسان هو الحبس الانفرادي.

هذا المفهوم عن الحبس الانفرادي ليس منتشرا للأسف، إذ يرتبط التعذيب عند كثيرين في العالم العربي بصورة سينمائية يقف فيها السجين شبه عارٍ، فيما السجان يلهب ظهره بالسياط، أو يستخدم المحقق الكهرباء لصعقه. لكن الحقيقة أن مفهوم التعذيب طبقا للرأي الطبي والحقوقي، المتعارف عليه أكاديميا وعالميا، يتجاوز ذلك بكثير ويشمل أية إساءة جسدية أو نفسية للإنسان بغض النظر عن التهم الموجهة إليه. وبالتالي، فهناك قائمة طويلة من إساءة معاملة السجناء تتم في السجون العربية تندرج تحت بند التعذيب منها على سبيل المثال الضرب والحبس الانفرادي، وهي قائمة تعترف الأمم المتحدة بأنها ضمن وسائل التعذيب.

ومع هذا، لم تحظ جريمة الحبس الانفرادي بالاهتمام الكافي من قبل وسائل الإعلام، رغم انتشارها على نطاق واسع واستخدام كثير من الدول العربية لهذه الوسيلة غير الشرعية لتعذيب المعتقلين، لا سيما المعتقلين السياسيين. وقد أشارت منظمة العفو الدولية لتفشي هذه الظاهرة في السجون المصرية، في تقرير صدر في أيار/ مايو الماضي بعنوان "سحق الإنسانية: إساءة استخدام الحبس الانفرادي في السجون المصرية"، باعتبارها جريمة تعذيب في أحيان كثيرة، حيث تمارس السلطة هذه الطريقة بشكل خاص ضد خصومها السياسيين في السجون والمعتقلات.

لا يوجد بند قانوني يتيح مثل جريمة الحبس الانفرادي، رغم وجود استثناءات بسيطة ولمدد قصيرة ومحددة. فالقانون المصري - مثلا - ينص على أن أقصى مدة الحبس الاحتياطي هي 15 يوما، وتم تعديل القانون عام 2015 لتصبح المدة القصوى هي 30 يوما. طبعا، فإن أيا من هذه المدد لا يتم الالتزام بها على أرض الواقع. فإدارات السجون تخضع لتحكم مندوبي جهاز الأمن الوطني القابعين في كل سجن يتحكمون في السجناء، ولديهم سلطات تفوق سلطة إدارة السجن.

من أهم الآثار السلبية لجريمة الحبس الانفرادي، أن تعرض السجين له لفترات طويلة يترك أثارا نفسية عميقة. من هذه الآثار الاكتئاب والأرق والعزوف عن التعامل والتحدث مع الآخرين، بحسب التقارير الحقوقية والطبية. ومما يزيد الطين بلة، أن السجين لا يعرف ما المدى الزمني لهذه العزلة القسري، خاصة عندما يُحرم من زيارة ذويه بالشهور، وأحيانا بالسنين.

ليس هذا فحسب، فجريمة الحبس الاحتياطي تقترن بجرائم تعذيب أخرى، مما يوحي باتصال الجرائم مع بعضها البعض، وهذا غير صحيح، إذ أن جريمة الحبس الانفرادي بكل آثارها السلبية المدمرة؛ هي وصف لعزل الشخص عن أقرانه داخل السجن في مكان واحد. أما وضعه في مكان ضيق ومنعه من استخدام دورة المياه الخارجية، أو اضطراره لاستخدام فتحة أرض داخل الغرفة لقضاء حاجته، هي جرائم منفصلة. وغني عن التعريف ما يترتب على هذه الممارسات من نقص للأكسجين داخل الزنزانة وانتشار البكتريا والعدوى. ولهذا، يعد بعض الأطباء الحبس الانفرادي كأقصى أنواع التعذيب من الناحية النفسية.

هذه الجرائم تحتاج إلى توثيق قانوني حسب كل حالة على حدة، حتى إن لم نمنعها الآن، فعلى الأقل يتم منعها مستقبلا. لقد حاول الروائي النمساوي ستيفان زفايج أن ينبهنا عبر دق جرس إنذار حول هذه الجريمة في آخر رواياته "لاعب الشطرنج"، قبل أن ينتحر هو وزوجته عام 1942، منهيا بذلك حياته التي قضاها رافضا للمذابح والحروب.