بعد عدَّة أيام، وتحديدا في اليوم السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، تَحِلُّ ذكرى مرور 745 عاما على وفاة الشاعر والفقيه والمتكلِّم والصوفي الأشهر، العارِف بالله مولانا جلال الدين الرومي (يعرفه الإيرانيون والأفغان بـ"البلخي"، نسبة إلى مسقط رأسه بلخ، شرقي خُراسان، ويعرفه الأتراك والغربيون بـ"رومي Rumi")، الذي توفي عام1273م، ودُفِن في قونية (شرق تُركيا الحالية). توفي وهو صاحب أعظم أثر على الإطلاق في ثقافات مُسلمي الفُرس والأفغان والتُرك والهنود وسائر شعوب آسيا. وقد جعلت منه الترجمات الإنكليزية العديدة لنصوصه؛ أكثر الشعراء تأثيرا في الحضارة الأمريكيَّة اليوم، وأكثرهم مبيعا على مدى تاريخها.
نظم مولانا جل شعره (الذي يقارب السبعين ألف بيت) بالفارسية المرصَّعة بالعربيَّة. ويعتبر ديوانه الأشهر "المثنوي المعنوي" دُرَّة الأدب الفارسي منذ الفتح الإسلامي، بل وأهم الآثار الأدبية- الصوفيَّة، ليس فقط في المنطقة التي تتحدث الفارسيَّة ومشتقاتها، وتكتب لغاتها المحلية بالحرف العربي الشريف، والممتدَّة من شرق الخليج الفارسي إلى تركستان الشرقيَّة، بل هو أحد أهم الآثار الأدبيّة- الصوفيَّة في تاريخ الإنسانيَّة بإطلاق.
انتقل مولانا جلال الدين مع أبيه بهاء الدين ولد، من بلخ (في أفغانستان الحاليَّة) إلى الأناضول (تُركيا)، حتى استقرَّ به المقام في قونية، حيث قضى أكثر حياته، وتوفي ودفن هناك.
ويتحدَّر مولانا من بيت علم وسلطان؛ صاهر الخوارزميين، وهرب من وجه الاجتياح المغولي إلى نيسابور ثم إلى الشام، ثم إلى مكة المكرَّمة ثم الأناضول، حيث استقرَّت الأسرة. ويقال إن نسبه ينتهي إلى الصديق صاحب رسول الله، صلى الله عليه وآله؛ لكن ما من مصدر يؤكد هذه النسبة.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي، رحمه الله؛ راسما ملامح مشروع مولانا: "ولما كان علم الكلام هو الشغل الشاغل لعصر جلال الدين، وأصبحت الحقائق من عقائد ومباحث إلهية وعقائد غيبية: كالألوهيَّة وصفاتها، والنبوَّة وأحكامها، والغيب والوحي، والجنَّة والنار، وغيرها؛ أصبحت موضوع البحث والجدال، وحديث النوادي والمجالس، واتجهت النفوس إلى التشكك فيها أو نفيها، وظهر في الأوساط العلميَّة الاضطراب في العقيدة؛ كان ذلك موضوع المثنوي والقطب الذي يدور حوله"(1) فكأنه نُظِمَ لعصرنا!
وفي موضع آخر، يؤكد الأستاذ الندوي على حقيقة يغفل عنها أكثر من يتصدون لنقد مولانا، وهي أن إنتاجه (رغم عالميَّة مخاطبته الفطرة الإنسانيَّة) هو وليد عصر معين، وأن أكثر الآراء حوله وليدة عصور أخرى وتأويلات تقتطع النصوص من سياقاتها التاريخية. ليس هذا فحسب؛ بل إن حاجز اللغة قد ساهم بدور رئيس في سرعة انتقال الانطباعات المضللة للمتفيقهين المتعصبين مذهبيّا، الذين لم يعرفوا الفارسيَّة، ولم يطلعوا على شعر الرجل؛ ولم يعرفوا طبيعة عصره.
وإلى حد كبير، تشبه رحلة مولانا جلال الدين الرومي، من علم الكلام والفلسفة إلى التصوف، رحلة الإمام الغزالي، مع اختلاف الزمان والمكان. وإذا كان الأخير، الذي خلف لنا آثاره بالعربيَّة؛ لم "ينجُ" من سخافات أكثر المتفيقهين والمتسلِّفة (على إمامته في الفقه والأصول والكلام)، فما بالك بمن لم تترجم آثاره إلا مؤخرا، وابتُليت بترجمات هزيلة لا توفيها حقها(2). لكن رغم الاختلاف الواضح بين تصوف الرومي وتصوف الغزالي، فثم وجه مهم للتشابه بينهما؛ وهو الخلفيَّة العلميَّة المتينة لكليهما في العلوم الشرعيَّة والعلوم العقليَّة. فقد بدأ كلاهما طريق التصوف بتحصيل المعرفة الكسبيَّة، والتي يعتبرها مولانا مفتاح الطريق إلى الله ومبدأ السلوك إليه. بل لقد كان لمولانا عناية عظيمة بالأدبين العربي والفارسي، مع علو كعبه في الفقه والكلام.
لقد أساء كثير من العجم وأكثر العرب تأويل شعر جلال الدين، وحمله على عكس مقصوده. وما بين زندقة أشباه المثقفين المحدَثين، الذين يُريدون اتخاذ مفهوم "الحب" عند مولانا بابا للإباحية والتفلُّت من التكليف؛ وجحود غُلاة المتسلِّفة الذين لا يؤمنون بما وراء عالم الشهود، يظل نتاج مولانا حائرا في العالم العربي - للأسف - بين وجهين ماديين لذات العملة القبيحة.
__________
هوامش:
(1) مولانا جلال الدين الرومي، أبو الحسن الندوي، القاهرة، تنوير للنشر والإعلام، 2018م.
(2) صدرت لكاتب هذه السطور مؤخرا ترجمة نثرية لمختارات مما فاضت به قريحة مولانا؛ راجع: كل يوم، مولانا جلال الدين الرومي، القاهرة، تنوير للنشر والإعلام، 2018م. وهي عبارة عن "365"حكمة مختارة، حكمة واحدة لكل يوم.
المسائل القانونية المتفرعة عن قضية خاشقجي
سؤال الأخلاق في سياسة السعودية تجاه خاشقجي